
رياض خليف
يأتي ديوان «رفيف فوق مياه آسنة» للشاعر عبد العزيز الهمامي ليثري رصيده الشعري ويعمق تجربته ويؤكد وفاءه للشعر الخليلي العمودي والتفعيلي، موغلا في كتابة الأحزان والانكسارات، متبرما من اللحظة. ولعل العنوان بدوره يوحي لنا بهذا المدلول النفسي. فالمركب النعتي «المياه الآسنة» يحيلنا على تلك المعاني القلقة. فالماء عنصر مهم ومحوري في لغة هذه المجموعة وصورها كيف لا وقد تصدر عنوان العمل وجاءت مفردات معجمه في مختلف القصائد حاملة وقعها. فهناك استعمال كثيف لهذه المفردات المنتمية إليه مثل المطر والنهر. لكن الماء لا يستعمل بلغته المباشرة، فهو يستعمل جسرا إلى المعنى، يلبسه الشاعر الكثير من الدلالات. فهذه العبارة الواردة في العنوان دلالة على الواقع الرديء وعلى الفوضى. لكن الماء في هذه المجموعة لا يظل أسير هذه الصفة (أي الآسنة) بل يتحرر منها. فهو في مواقع أخرى من الديوان دلالة على الخصب الأدبي وعلى انفتاح عوالم الإبداع على غرار قوله:
وأسرت بي الأنواء ذات غمامة
وألفيتني فوق الكتابات أمطر
هذه الصلة بين عوالم الماء والإبداع تظهر في مقطع آخر يؤنسن فيه الشاعر القوافي ويستعمل فعلا من أفعال الإنسان بواسطة الماء:
وأرى القوافي يغتسلن بضفتي
وتصيد لي الكلمات ضوء محارها
وتبدو المياه باب حلم وخصب عند استعمال لفظة المطر:
لغة من الحب الشفيف لعلها
مطر بروحي لا تراه الأضلع
فمعجم الماء في الديوان يتمرد على الدلالة التي أوحى بها العنوان، لكن ذلك لم يغير الصورة الكبرى التي يطرحها العنوان، صورة الشاعر المتألم والمغترب والمتوجع من اللحظة. وهو ما وجدنا في مطالع القصائد صدى له بل تعبيرا عنه.
إن المطالع تكتسي بعدا مهما في القصيدة الشعرية العربية. فهي لحظة شد انتباه القارئ وجلبه إلى عوالم القصيدة، ويمكن اعتبارها من أبرز مواطن إثارة المتلقي. فهي تثير القارئ بنظامها الإيقاعي، المستحسن لدى العرب قيامه على التصريع، وكذلك بمضمونها ومفرداتها. فهي محطة جديرة بالتأمل والتدبر، ويمكن اعتبارها عتبة مهمة من عتبات النص الشعري، فهي تحتل موقع الصدارة وتحظى بتقنيات خاصة تبرزها للمتلقي، ما يجعلها تسهم إلى جانب مختلف العتبات في تقديم خطاب واصف استباقي يقربنا من عوالم القصيدة أو المجموعة. ولعل هذا ما يستوقفنا في هذه المرحلة من الحديث عن هذا الديوان، فأغلب مطالع القصائد العمودية الواردة فيه تكتب نوعا من الألم، ملوحة بالحزن والاغتراب والانكسار والوحدة، وغير ذلك من المعاني الحزينة التي تبدو مخيمة على الكون الشعري للشاعر في هذا العمل.
لعل أبرز ما يظهر في هذه المطالع تلك الوقفات الحزينة للشاعر التي يتجرع فيها الوحدة. فها هو في قصيدته الأولى «رحيل إلى شرفة المعنى» يلوح بالفراغ والقفار معبرا بذلك عن الفقد والوحدة:
أحدق في اللا شيء لا طيف يعبر
وأركض خلفي والمسافات تكبر
وما زال دهري بالدماء مضرجا
فلا القفر مخضر ولا الليل مقمر
فنحن أمام مطلع يوحي بحالة من الكآبة والعزلة. وبحالة قلق من المكان، فهو «اللاشيء» لوعة القفر» وهو «المسافة التي تكبر».
هذه الوحدة تبدو أيضا في مطلع القصيدة الموالية الموسومة بالقصيدة. فالشاعر يصور وحدته ويتقمص صورة المرتحل في الصحراء.
«وحدي هنا أغفو على أحجارها
ومعي رفيف الضوء من أنهارها
وقطعت في الفلوات أطول رحلة
حتى بدت لي دانيات ثمارها»
تظهر صورة المرتحل الوحيد في مطلع «أنا وأنت» التي يعود فيها إلى لغة الترحال والسير والأرض القفار:
«هي ذي خطاك على الطريق وئيدة
شجن برأسك والهموم عنيدة
الأرض ملح حين أقفر ظلها
غاب الشذى والأمنيات بعيدة»
إن صورة الوحيد التي ترافق الشاعر في عديد مطالعه وقصائده تكتب حالة من القلق الوجودي تستبد به حاملة، بدورها الكثير من آلام الحياة وانكساراتها. ولعل حضور ملامح الترحال في بعضها يغمز إلى ثيمة من ثيمات القصيدة العربية وهي قسم الرحلة.
إن كتابة هذه الوحدة والغربة تتحول في قصائد أخرى إلى كتابة حوار مع الأبواب والديار. فالشاعر يتخيل لحظات الوصول ويصنع منها عوالم أخرى. فتحضر الأبواب ويغيب العشق في «حديث الماء»:
تنوء بك الأسوار والباب مقفل»
فتبدو الأبواب مقفلة، بل متاهة محيرة وباعثة للسؤال، على غرار مطلع «بعض من الضوء»
شيء خفي يثوب الغيب مئزره
من أي باب من الأبواب أعبره؟
هي أبواب انتظار على نحو ما يرد في مطلع قصيدة «الباب»:
أدق بابك لا حس ولا خبر
طال الوقوف وظل القلب ينتظر
وتبدو هذه المطالع معبرة عن حالة من الغربة يعيشها الشاعر، وهو ما يعبر عنه في مساء المدينة:
قلبي هناك تشده الأعتاب
وهو الغريب وماله أصحاب
في هذه الغربة تنبلج القيروان مدينة شامخة في ذهن الشاعر وفي قلبه، سؤالا حزينا، منكسرا:
أبصرت في جفن المدينة دمعة
منذ مرّ منها العاشقون وغابوا
يا قيروان متى أراد نبوءتي؟
ومتى يعود زمانك الخلاب
ويبدو المكان هاجسا كبيرا في هذه المطالع وفي هذه المجموعة عموما. فتلوح مطالع ذات صلة بالوطن. فيبدو وجع الوطن في بعض هذه المطالع، من ذلك مطلع قصيدة الغابة:
بلد تسوء بليله الأوضاع
وتلوثت قيم به وبقاع
أو مطلع قصيدة تونس:
يا رب تونس حلمها في عهدتك
هي في النوائب من يلوذ برحمتك
خضراء في ذهن السحاب مكانها
منذ القديم وماؤها من غيمتك
هكذا تبدو المطالع مداخل لعوالم هذه المجموعة، مطلة على عالم الشاعر وما فيه من عزلة واغتراب وانكسار، وما فيه من مركزية للقيروان معشوقة خالدة وما يتخلله من مشاعر تتعلق بالوطن، زيادة على وظيفتها الشكلية في كونها تجدد الصلة بين الشاعر والشعر العربي القديم: ليس من ناحية الإيقاع حسب، بل من ناحية المقطع الطللي وقسم الرحلة وبكاء الديار. وهي بذلك تقدم إشارات إلى مضامين هذه القصائد.