
حسن داوود
ذلك الثقب في الباب، لمجرّد تسليط الضوء عليه، أخذني إلى كتاب «الجحيم» لهنري باربوس، حيث التلصّص المحموم والداعر على ما يجري في الغرفة الأخرى. كان النازلون في الفندق يأتون اثنين اثنين مظهرين للمتلصّص أكثر المشاهد حميمية وخصوصية. في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» لسلطان العميمي، لا أحد هناك، في الغرفة الأخرى، إلا شخصه. هو شبيهي، يقول عن ذلك الذي وراء الثقب، لكن ذلك يتعدّى بكثير الشبه العادي، بما في ذلك التماثل بالصوت وبطريقة الكلام والطرب بالأغنيات ذاتها، وكذلك تحريك الأطراف وإمالة الجسم. الفرق بين قرواش، وهذا اسمه، ومن يراقبه هو أنّ الأخير حرّ طليق في ما هو مسجون في غرفته. معتقل رغما عنه ومقطوع الصلة بالخارج. ولا يسمع الآخر صوته حين يكلّمه، في حين يصل إليه صوت شبيهه من الغرفة الأخرى عاديّا غير خافت ولا مشوّش.
رواية سلطان العميمي ما كان ممكنا أن يستمر السرد فيها، بعدد صفحات يزيد على المئتين، لو بقيت عند تداعي قرواش وخوفه وهواجسه، ذاك أن شيئا سوى ذلك لم يحدث. أقصد لم يدخل أحد إلى الغرفة، ولم يجر حوارا مع أحد ماكث خارجها. ولم يبدأ شيء يخالف ما كانه الحال بالأمس. ليس إلا هو في تلك الغرفة متلصّصا على شبيهه، أو مثيله، الذي لا يفعل الكثير هو أيضا: دخوله من الغرفة وعودته إليها، استلقاؤه على السرير، ثم نهوضه من قيلولته أو من نوم ليلته. كيف كان يمكن للكاتب أن ينجز رواية دون حدث، بل دون تبدّل في المشهد الأقرب إلى السكون.
لهذا كان ينبغي أن تدخل أحداثٌ من خارج خطّ السرد الموصوفة بعض عناصره أعلاه. إنها حياة الجدّ، جدّ قرواش، ومغامراته في رحلاته البحرية بحثا عن اللؤلؤ. كان الجدّ يصل في رحلاته إلى بلدان كثيرة، حيث في إحداها، عاقب رجالا طلبوا الانضمام إلى بحّارته، وتبيّن لاحقا أنهم كسإلى ولا يجيدون الغوص، لكن هؤلاء، بمساعدة أحد السحرة، تمكّنوا من مسخه ثورا ضخما ظلّ يعمل في حرث الأرض أحد عشر عاما. ثم أفرج عنه هؤلاء وأعادوه بشرا بعد أن رأوا أنه تلقّى عقابا كافيا. أما قرواش، الذي يمكن أن نسميه قرواش الثالث، طالما أن جدّه وأباه حملا الاسم نفسه، لأسباب فصّلتها الرواية، فراح يتخيّل، ويدوّن، ما جرى في حياة جدّه في ما هو قابع رغم إرادته في تلك الغرفة.
هذه الرواية «الثانية» رواية الجدّ، المتضمنَة في الرواية الأم، سوّغ الكاتب اختلافَ وقائعها وغرابتها بالفاصل الزمني الواسع بين جيل الجدّ وجيل حفيده. ثم، من ناحية ثانية، كان سلطان العميمي يروي ويستمر في روايته، لكن دون أن يتوقّف، هو نفسه، عن التساؤل إن كان ما يسرده لنا قابلا للتصديق. ذلك الزواج بين عالمين روائيين أحدهما تأمّلي استبطاني وفلسفي، وثانيهما مغامراتي على طريقة علاء الدين والمصباح السحري، لم يقوّض الرواية، على الرغم من استحالة ذلك التعايش، لكن بكفاءة عالية أمكن للكاتب أن يبقينا مستمرّين في القراءة، متابعين أصلا حكاية قرواش الأخير.
كما يسوّغ ذلك الزواج بين الماضي والحاضر، التبدّل السريع في بلاد مثل بلد قرواش، حيث المسافة بين زمن الجدّ وزمن حفيده تبدو شاسعة كأن مئات السنين تفصل بينهما. هما روايتان إذن، إحداهما جارية في تضاعيف الأخرى. لكننا نظلّ مترقبين ماذا تحمل الأيام المتتالية لقرواش المسجون. كما نظلّ في حال التساؤل، نحن القرّاء، عن فكرة الكاتب من وراء هذا السرد، هل إنه يحملنا إلى التفكير في أن الفرد منا منشطر إلى شخصين اثنين؟ هل أن علّة وجودنا قائمة في مراقبتنا لعيشنا؟ أو هل أنّ كلا منا يحمل في داخله غريبَه؟ لا تتوقّف الرواية عن دفعنا إلى استعجال مآلها ومقصدها.
لكننا نعلم أنه في السياق السردي الفلسفي أو النفسي لن يأتينا الجواب إلا في الفصل الأخير، حيث ستقول الرواية كلمتها وتعلن عن فكرتها، ذلك الحوار السريع بين الشبيهين، في الصفحات الأخيرة، قلب الأمور رأسا على عقب إذ حوّل الآخر، المراقَب من قبيل مثيله السجين، إلى أن يكون هو بطل الرواية. ذاك الذي كان الآخر المجهول المراقَب أوقف مثيله عن مسك زمام الروي. قال له، بعد أن أفهمه أنه نسخة منه، وأنه عمد إلى إفراده ليمكن له أن يعيش تجربة قابلة لأن تُكتب. «سأخلي سبيلك» قال المراقَب لنسخته، «وسأنقل المتحدّث في هذا العمل إليّ فورا». ثم، في الفصل 53، وهو الفصل الأخير من الرواية، نقرأ سطر الختام: «أدير قبضة الباب، أفتحه له، ليخرج راكضا، ثم يختفي».
رواية سلطان العميمي «غرفة واحدة لا تكفي» صدرت طبعة جديدة لها عن دار الساقي في 207 صفحات سنة 2022.
كاتب لبناني