
محمد دخاي
بين المنجز السردي الجديد «طفل السوق» للكاتب يوسف صبري، على أنه ليس كبقية إبداعاته الأخرى التي لا تحدد جنسها الأدبي، فهو يسميه وكما يقول بالسيرة الذاتية التي كتبها بروح سوسيولوجية أنثروبولوجية، وارتباطا بالتصنيف الأجناسي فرؤية التبئير أو زاوية الرؤية، كما يصطلح عليها في علم السرد، تحيل على نظرة الطفل يوسف وهو يقتحم عوالم حكيه ما بين فضاءات متعددة، يستعيد من خلالها دهشة الأمكنة، بل يعلن عن ذلك بصراحة متناهية «تقمصت دور الراوي للمحطات واللحظات، الفاعل فيها والمتفاعل معها والعابرة على جسده وروحه بما تملكه من السلطة».
تعالق السرد وبوح الذات
«طفل السوق» تجربة حكي معلنة يمارس فيها السارد دور الشاهد، حيث يحضر فيها كسارد خالص مستعملا ضمير المتكلم، ينفتح على خطابه السردي بشفافية كبيرة، ولا يسمح أن تنخرط معه في سرده أي أصوات أخرى ، فالسرد في نص «طفل السوق» يمر من تجربة حياة اختصرت السارد لأربعة عقود زمنية خلال الثمانينيات في مدينة بنكرير وفي سيدي بنور، وبمرجعيات متعددة في شكل ما يسميه بالقالب الذي يعمل من خلاله على «إعادة بناء للحظات السابقة وللمجال والفضاء العام من القرن الماضي، بما يشبه محاكاة لماض كان يتحرك في كل الاتجاهات» مطالبا القارئ باحتضان تجربة الطفل يوسف الذي صار من العدم نحو الوجود، تجربة سردية تعلن عما يسميه فيليب لوجون الميثاق الأتوبيوغرافي، وهو عنده من الشروط الموضوعية حيث يتطابق فيه الراوي والشخصية والمؤلف، وهي ميزة من مميزات الكتابة السردية في وقتنا الراهن لأن، «هنالك رغبة في البوح والبحث عن تموقع واقعي وامتداد فني جديد، كما تقتضيه القراءة الجديدة للحياة والكون والفضاءات المختلفة والماضي والذكريات، التي ستتحول إلى مشروع إبداعي، حيث يسيطر السارد/الطفل على أغلب المشاهد والأمكنة التي يسردها، خاصة التصاقه بأمه الذي يصفه بأنه ليس عبثا، وفي عالم غريب متسائلا «هل يا ترى يتساوى العالم كله، تحت السقف نفسه؟» وهو سؤال مشروع ينطلق من اختلاف تنقله ما بين مدن «بنكرير ودكالة» وهو يكتشف أبجديات الحياة من خلال حديث السارد عن الطفل بضمير الغائب بقوله: «هذه الحادثة في اكتشاف الطفل لذاته ستتبعه مع الوقت حوادث اخرى لتبيان أن الذي لبث سنين صار في إمكانه اكتشاف أين يوجد ومع من وإلى أي مساحة ينتهي؟»
العبور الأجناسي.. رؤية جديدة للتعابر والتجسير في الكتابة
يطرح المنجز السردي «طفل السوق» ارتباطا بالمرجعيات التنظيرية المرتبطة بالسيرة الذاتية، وفي سماتها الأجناسية ما طرحته إشكالية التخييل الذاتي من الناحية التداولية والإبداعية، من خلال جدلية العلاقة ما بين السير الذاتي والروائي وحدود العلاقة ما بينهما من خلال النسقية المعجمية كما حددتها الخطابات التنظيرية كروايـة السيـرة الذاتية (roman Autobiographique) أو السيرة الذاتيـة الروائية (Autobiographie Romanciée) بمعنى ان « الكاتب يستخدم الشكل الروائي قناعا لكتابة سيرته الذاتية، لأسباب كثيرة يتعلق كثير منها بالرغبة في الهروب من الرقابة بكل أنواعها الذاتية والأسرية والاجتماعيـة والسياسية إلخ» وهو ما جعل منها نصا مفتوحا على مسافات من الإبداع يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، نص يعيد صياغة شكل إبداعي من ناحية اللغة والأسلوب بعيدا عن الصيغ التعبيرية الإنشائية والمستهلكة، وكذلك من حيث البنى الحكائية بوعي فني ونقدي حداثي «إنني كلما عدت إلى الخلف في جلب الذكريات من القاع إلى ها هنا، من أجل مساءلتها، أو على الأقل في قصة سرد اخترت مناظرتها بضمير الغائب والمتكلم والمخاطب، نيابة عن جماعة ذات ثقافة ومناخ عام مشترك، فإنني أوقظ أكثر الأسئلة المحيرة، وأجد نفسي مجبرا على ارتداء هوية طفل ومعانقة تلك الدهور البعيدة من أجل الغرض ذاته» نص سردي حاول فيه الكاتب أن يعيد صياغة شبكة علاقته العمودية بالشخوص والأمكنة من خلال الوصف التصويري الفوتوغرافي وإعادة تشكيل وجودها فنيا، في سياق سردي يعيد القبض على الأحداث والتقاط جزئيات من الذاكرة. وهو يريد منه أن يكون مرجعا حياتيا «وأنا أقوم بهذه الجولات البرانية من بعيد، وعبر زمن أخلدت جل عقوده إلى سبات عميق، أيقظت فيها فجأة إمكانية البوح المشترك معي ومعها إلى نهاية هذه السيرة التي أعتقد أنني أدونها بفخر» تجربة تبني وعيها الخاص على آليات خاصة، وتبرز أن المؤلف كان يدرك أن هذا النمط السردي الذي يؤكد حقيقة الاشتغال على سيرة ذاتية صرفة لأن كل نص «له منطقه الفني وكيانه ومنظوره وأسئلته وخصائصه وله فلسفته» بل إنه يحرص على صياغة الميثاق السير ذاتي من خلال العديد من الأسئلة الوجودية المرتبطة بالذات «هل كان من أجل هذه الأخطاء أن يتم الفتك بي دون المراعاة لطفل صغير يحب الدنيا، ويريد أن يخرج من القمقم وقد عاد لتوه إلى القسم مدفوعا برغبة نحو التعلم؟».
احتواء السيرة الذاتية: من أجل وعي متعاقد بين المؤلف والمتلقي
هل يمكن القول إن المنجز السردي «طفل السوق» وإن كان يعلن عن ميثاقه الإثيوبريوغرافي كسيرة ذاتية بوعي متعاقد عليه بين المؤلف والمتلقي هو نموذج لترسيخ حضور لعبور أجناسي يعيد رؤيا جديدة للعالم؟ وإن ثبات ما يسمى بالجنس الأدبي مع الكتابة الجديدة أصبح رهانا نحو اللاتجنيس، وأن القوالب الجاهزة في الإبداع هي مجرد أنساق متحولة لا يمكن أن تحتفظ بخصائصها؟ إن رؤية المؤلف الإبداعية في غخراج هذا المنجز السردي تنطلق في بدايتها من لغته التعبيرية، لغة شعرية تتكئ على الصورة الفنية والرمز والغموض وهي ترصد مسار الطفل يوسف وتحولاته المكانية، مارس فيها لعبا سرديا أعاد انتهاك الحدود بين السيرة الذاتية وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، فالأسلوب الشعري لم يفقد عند نمط الرؤية وموقع الراوي، بل تجاوزه إلى شعرية اللغة والسرد والمكان والشخصية والتناص والتقنيات الأسلوبية، ذلك أننا قد «نجد عنصرا مفارقا في علاقة هذا الشكل بالشكل الآخر، لكن الحدود الفاصلة قد لا تبدو مطلقة ونهائية بقطع النظر عن النظرية التي تبيح التداخل بين الأجناس الأدبية وتشكك في الحدود الفاصلة بينها» وهو ما يمنح القارئ مشروعية التلقي المتعدد المبني على كون النصوص الإبداعية تفتح أفق قراءتها ولا تخضع لقراءة واحدة وحيدة كسبيل للتماهي التناصي بين الأجناس الأدبية لأنه «يقوم على التوافق بين العابر والمعبور عليه. ونعني بالتوافق الصيغة العملية التي بها ينفذ الجنس العابر إلى المعبور عليه فيتماس معه تماسا صميميا، سطحا وعمقا».
عندما نتحدث عن تلاقي وعي النص ووعي المؤلف في تحديد مسارات العبور الأجناسي كنظرية جديدة تصبح السيرة الذاتية رواية لها مكونات النص السردي وبناؤه، يتداخل فيها المتخيل بالواقعي لأن أي تعامل مع الأحداث، لا يتم إلا بشكل حكائي تتحكم فيه أنساق وسياقات معينة، لأن الأجناس الأدبية تتعالق في ما بينها لكنها تلتقي في شيء واحد إنها تتماهى مع هذا العالم الذي يتحرك في حدود زمكانية متخيلة وواقعية.
ناقد مغربي