الرواية الحديثة وأسئلة التنوير: دراسات في رواية الطوفان الثاني لفاتح عبد السلام

2022-10-05

أربعة عقود من الاشتغال في ميدان الكتابة القصصية والروائية هي مسيرة الكاتب العراقي فاتح عبد السلام، أثمرت اربع روايات هي، «حي لذكريات الطيور» 1987، «عندما يسخن ظهر الحوت» 1993، «اكتشاف زقورة» 2000، «الطوفان الثاني» 2020، إضافة إلى ست مجموعات قصصية.

وفي إطار المتابعة النقدية لهذه التجربة صدر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق منتصف عام 2022 كتاب بعنوان «الرواية الحديثة وأسئلة التنوير: دراسات في رواية الطوفان الثاني لفاتح عبد السلام» ساهم فيه نخبة من النقاد، وهُم: بشرى البستاني، محمد صابر عبيد، محمد شيرين تشكار، مراد كافي، سوسن البياتي، نبهان حسون السعدون، إبراهيم مصطفى الحمد، طلال زينل سعيد، مروان ياسين الدليمي، وقد تولى تحرير وتقديم هذا الإصدار كل من محمد صابر عبيد وطلال زينل.

الدقة والانضباط في اللغة والسرد

مقدمة الكتاب أشارت إلى أن هذا الإصدار بمثابة فرصة بحثية مناسبة لرصد طاقات التنوير الفنية والموضوعاتية في هذه الرواية، في سياق مجموعة منتخبة من القراءات البحثية التي تتناولها من زوايا مختلفة، للكشف عن الطاقة التنويرية والثقافية والجمالية التي تثوي فيها، داخل رؤية مشتركة تنتظم فيها هذه الدراسات في اتجاه بحثي وقرائي. وتضيف المقدمة حول تجربة عبد السلام مشيدة بها، باعتباره من الكتاب الذين يُعنون كثيرا بما يكتبون على نحو شديد الدقة والانضباط، وهو لا يفرط باللغة والسرد والتشكيل والتعبير، بل يولي ذلك كله عناية فائقة، لذا حظيت روايته «الطوفان الثاني» بمزيد من الرعاية على مستوى الفعاليات الأساسية المكونة للفضاء السردي. وقد حاول عبد السلام أن يقتنص لحظات إنسانية باهرة في حياة شخصية «كمال» المركزية في هذه الرواية، وشخصية سالي الموازية لها، بما انطوت عليه من خصوصية تركيبية، وشخصية العمة «نوال» العرفانية، وقد اجتهد الروائي في منحها طاقات غيبية غامضة ظلت مستورة حتى نهاية الرواية، للكشف عن طبيعة مخزون الموروث الشعبي. وفي ما يتعلق بالشخصيات الثانوية والساندة والبسيطة فلم تظهر في فضاء السرد الروائي على نحو عبثي، بل يشعر المتلقي بأنها صيغت بعناية ووعي يتناسب مع دورها في بناء التشكيل السردي العام في الرواية. بحيث يمكن القول إن فاتح عبد السلام أولى عناية خاصة بالشخصيات الثانوية على نحو يحتاج إلى كثير من التأمل.

تجاوز الأطر الثابتة

وبالعودة إلى عنوان الكتاب المرتبط بالرواية الحديثة، فقد جاء في المقدمة أن النظر إلى هذا المعنى يأتي في سياق فهم معنى الحداثة أصلا لإدراك قيمة التفاعل المشترك بين الصفة والموصوف، إذ أن مصطلح الحديث لا ينتمي للفضاء الزمني، بل الفضاء النوعي الجمالي الخاص بالتركيب الفني، على النحو الذي يشير إلى أن الرواية الحديثة في مجال السردية العربية على نحو خاص هي التي تنتج معنى الحداثة فنيا وجماليا، وتشتغل على تطوير أدواتها وعناصر تشكيلها السردي من الداخل، بما يحقق تقدما ميدانيا في فعاليات الحراك السردي كلها، وتفتح سبل التواصل مع المرجعيات المتاحة داخل بنية تفاعلية تنتخب منها ما يشحن الكيانات السردية المؤلفة للرواية بمزيد من القوة والتجلي، ويدفعها في اتجاه ما يتيسر لها من جرأة وبسالة في تجاوز الأطر المعتادة، والثوابت السائدة في إمكانات ثرية وخصبة تجعل من الرواية وسيلة طليعية للتنوير والتحديث.

والمعنى التنويري الخاص بوظيفة السرد التنويرية يرتبط أساسا بالخطاب السردي، وهو يؤثر عميقا في مجتمع التلقي، وبما أن الرواية اليوم أصبحت ديوان العرب الجديد، بديلا عن الشعر الذي كان يمثل ديوانهم القديم، فإن مستوى التأثير صار أكبر وأعمق وأوسع، بعد أن بلغ الإنتاج الروائي العربي مستوى فاق حجم التوقعات بكثير، وبقدر تعلق الأمر برواية «الطوفان الثاني» فإنها تنطوي على بعد تنويري في أكثر من مجال، ولاسيما أنها تقارب قضية بالغة الأهمية في موضوع الهجرة والنزوح والهوية والانتماء والوطن والحرب وتفكيك الدولة والمصير، ولكل وحدة موضوعية من هذه الوحدات كيانها الإنساني الكبير، المتعلق بجملة هائلة من المفاهيم والرؤى والأفكار والقيم، وهي بحاجة إلى وعي وخبرة وتجربة ومعرفة كي تبلغ مستواها المطلوب.

شعرية السرد

المبحث الأول كان للشاعرة والأكاديمية بشرى البستاني، وجاء تحت عنوان «شعرية السرد.. رواية الطوفان الثاني مثالا» وترى البستاني أن متأمل الرواية يجد أن الأسلوب كان موضع عناية مهمة من قبل الكاتب، متحاشيا العبارات الجاهزة ومجريات السيرة الذاتية التي كثيرا ما تهيمن على أسلوب الروي، ومعبرا بأسلوب لم تفارقه السمة الشعرية التي ظلت تعلن عن جمال حضورها عبر السرد. وتخلص البستاني في نهاية بحثها المطول والرصين، إلى أن عبد السلام أفاد من بعض اشتراطات رواية ما بعد الحداثة، كقيام المؤلف أحيانا بمهمة السرد، والتضمين بإدخال قصص داخل أحداث الرواية وتنويع شخصيات الساردين، والإفادة من التناص، ولاسيما في الإشارات الصوفية، التي تسترجع فيها العمّة بعض السلوك العرفاني من التراث الإسلامي، وما يُحمد لهذه الرواية أنها تجنبت معظم سلبيات رواية ما بعد الحداثة، كترسيخ معطيات فوضى الوجود وفرض اللغة والثقافة السائدتين على العالم استعلاء، بوصفهما شرعيتين، واستبعاد خصوصيات الثقافات الأخرى.

فرضية اللامكان

الناقد محمد صابرعبيد في مبحثه «اللامكان السردي وإشكالية الهوية، رواية الطوفان الثاني نموذجا» يرى أن هذه الرواية تشتغل شروعا من عتبة عنوانها على فرضية اللامكان، استنادا إلى معنى الطوفان الذي يلغي المكان/ الأرض أساسا عن طريق محوه وإحلال الماء محله، وإلغاء المكان يتيح فرصة كافية لافتراض حضور اللامكان داخل دائرة الحدث السردي المقبل من فضاء السرد.

تنوّع أنماط الشخصيات

وفي البحث الموسوم «رمزية العنوان وإسقاطاته الدلالية، قراءة نقدية في رواية الطوفان الثاني» يصل الباحث محمد شيرين تشكار إلى أن عبد السلام استطاع من خلال عنوان الرواية أن يدلل على مصائر أناس ومجتمعات جرفها طوفان هذه الرواية، وراح ينوع في توزيع أنماط الشخصيات الرئيسية، ما بين مكانين شهدا أحداث الرواية، بريطانيا والعراق.ويضيف تشكار بأن القارىء يدرك من اللحظات الأولى عبر سيميائية العنوان، أنه على مشارف معاينة ظواهر فردية واجتماعية شتى من منظار الراوي النقدي المعرّي للحقائق، والباحث عن تفسيرات مقنعة لجملة واسعة من الإشكالات والتناقضات اللامفهومة.

ذاكرة الألم

أما سوسن البياتي في بحثها «الذاكرة والبحث عن الهوية الضائعة، اشتغالات الذاكرة في رواية الطوفان الثاني» فقد توصلت إلى أن الرواية تمثل بأكملها سردية ألم تحكم قبضتها على مصائر الشخصيات جميعا، فرحلة البحث عن الهوية والذات والحرية والذاكرة المستعادة ما هي إلاّ ذاكرة الألام والذاكرة المؤلمة، ذاكرة الشقاء، وهذه السردية نجد تفاصيلها تغوص في ذاكرة الوطن/ الطفولة /الأحلام ومن ثم في الهروب الجماعي/ المعتقلات/ المنافي/ استغلال ذوي النفوس الضعيفة لحاجة الشخصيات الباحثة عن الأمان والحرية.

رؤية تشكيلية وسينمائية

الباحث نبهان حسون السعدون تمحور بحثه حول الرؤية المكانية في هذه الرواية، مشيرا إلى أن المكان يشكل البعد الرؤيوي لشبكة العلاقات التي تتظافر لتشييد المكان، الذي تجري فيه الأحداث بفعل الشخصيات، فالمكان ليس مجرد تشكيل للمادة والأشياء في صورة تدرك لذاتها، إنما هي تظهر في النص من خلال زوايا نظم رؤى لتعبر عن انبثاق عالم كامل له حركته ومجاله الانفعالي. وقد قسّم السعدون بحثه إلى رؤية تشكيلية ورؤية سينمائية.

واقعية سحرية

ويصل الباحث إبراهيم مصطفى الحمد في بحثه الذي عنونه «متاهة العالم» إلى أننا إزاء رواية مكتنزة بالواقعية السحرية، التي رسم معالمها الكاتب بمهارة عالية، فمنحنا مشاهد متشابكة ومتداخلة حد الغموض، لكن معالمها واضحة وخيوطها ممدودة بمهارة وحرفية باذخة.

بينما توقف الباحث طلال زينل عند الشخصية الروائية في هذه الرواية عبر بحثه الذي جاء بعنوان « مستويات الشخصية المحورية» وبهذا الجانب يقول، «إن شخصية كمال المحورية تحظى بعناية الراوي كلي العلم أولا ، ثم الراوي الذاتي في ما بعد بوصفها مركز الفعل السردي في الرواية، فهي فعلا مركز الحدث الروائي وجوهر الحبكة السردية.

بينما يرى الباحث مروان ياسين الدليمي في قراءته التي حملت عنوان «البحث عن الذاكرة المغيبة» أن المنفى تحول في هذه الرواية إلى محرك أساسي لفعل السرد وفي رسم مصير الشخصيتين الرئيستين، كمال وسالي. كما يشير ياسين إلى أن الرواية لم تتوقف عند حدث مركزي، خاصة أن العنوان لربما يوحي بذلك، بل هناك امتدادات سردية تفضي إلى تفرعات كثيرة، داخلية وخارجية تتلاحم مع بعضها في إطار حبكة تشكلت أبعادها ما بين عالمي المنفى والداخل.

«الرواية الحديثة وأسئلة التنوير..دراسات في رواية الطوفان الثاني لفاتح عبد السلام»: تأليف نخبة من النقاد والباحثين، تحرير وتقديم ومشاركة، محمد صابر عبيد، طلال زينل سعيد. جهة الإصدار: الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – الطبعة الأولى 2022







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي