البعد الأنثوي للوجودية في تجربة السعودي إبراهيم الجريفاني

2022-10-02

الحسام محيي الدين

من معاني الانجراف الإبداعي أن يفر الشاعر بالشعر من الواقع، واقعنا، إلى برج عاجيٍّ ما، لأن المعاناة هي صنو التجربة الإنسانية، ولا يمكنه التفلت منها بحال من الأحوال. فهو شاعر التزام فرداني بأبعاد تجاربه المعيشَة، وهو الذي اختار موقفه الذي يجعله نهبا للحزن والألم والقلق ومشكلات الحياة والمصير، وغيرها من معاني الصراع مع الوجود، طمعاً بالتجاوز إلى بناء عالم جديد. بهذا الفهم يرتّب الشاعر السعودي إبراهيم الجريفاني ذاته، بعمق استشرافي يعي أمداء مشروعه الكتابي، كانبثاقٍ مُجرّد عن نصوصه الوفية لرؤيته الخاصة وهي تحمل المواجهة مع الآخر، وهو هنا المرأة في مواقفها كافة التي تدفعه إلى التفكر بمعان عاصفة في تعالقه معها: اللقاء، البعد، الإيثار، العبث، التمرد، اليأس، الأمل، ليعيش بذلك حداثته الخاصة في قالب فكري متحول عن مستندات فكرية اجتماعية على امتداد ثلاثة عشر ديوانا، هي حصاد تجربته حتى اليوم، أهمها: أمشاج بشرية / شوق المُشتئِق/ ناسوت العشق/ رُواءُ الشِّعر / وغيرها.

المواجهة لا تعني الصدام، إنما هي بسط جدلية التناقض والاتفاق الذي يعتور وجدانه بين عوالم أنثوية عديدة، يحاول الارتقاء بواقعيتها وتجميلها، لكنه لا يسلم من قساوتها حضورا وممارسة، فهو رجل أسفار وحل وترحال، بين بلاد ومدن وثقافات متنوعة، تفرض عليه تبدل الأمكنة، ليجعل من مواقفه فعلا متوالداً عن تجربة فردية هو ابن قوانينها الذاتية حدَّ الرؤيا ببعدها الإنساني، عمّقَ نظرته إلى المرأة وربما فلسَفَها دون أن يعلم، ويدلي بدلوه في بئر قضاياها، بالضرورة الموضوعية والخُلُقية المباشرة، بعيدا عن تاريخانية التقيد بموقف ما مع أنثى وحيدة بعينها. إنه يعلم أنه رجل مقروء ومراقب، مسؤول تحت سطوة قلق الكينونة في تماسها مع ذلك الآخر، معنويا أولاً ثمّ ماديا، فإذا ما تفتحت لديه حقيقة الروح الأنثوية، فإن رقعة الجسد تبقى محوراً تالياً في الأهمية، ويبقى هذا الأخير محمولا كتلويّاً له حرمته في الحضور والغياب، مما نجده على امتداد سفره المعراجي بين ديوان وديوان. في مثل هذا التصور، يمكن التأكيد أن الجريفاني ليس كائناً مغلقاً في كَون مُتكوّر على ذاتيته، إنما هو مجازُ تواصلٍ مروحي مُتمدد مع النساء، يبدأ واقعيا وينتهي كذلك، لا يخطئ التفسير ولا التقدير، وينطلق عفواً من استعداده الدائم للتبدل والامتلاء، فلا يقوّض حِجاجِيّة موقفه المتحرك مع المرأة، كي لا يترك لقلبه أن يكون وحيدا، مطوّراً من معاناته بما يناسب كلّ ظرفٍ مستجد بعد مراجعته لنفسه، ومحاولا ألا يقع في فخّ خطورة اللاانتماء. يحتاج الجريفاني أن نغوص في خطابه الأنثوي المتلبس بكينونة وجودية، تهمه المرأة في أحوالها كافة، أبعادها الآدمية المشرعة لهدف فلسفي، هو معني بها، لا بنفسه حسب، في الابتعاد يهجرها هجرا جميلا، وفي الاتصال ينبعث من طقسِ أحاسيسٍ جامحةٍ بالشّوق، تترجمها رؤى نقية تحجبه من السقوط في الابتذال، وتنضحُ بالحيوية الفنية في ممكنات الصورة الشعرية التي تختزنها نصوصه، والتي بها يوشكُ الظنُّ، غيرَ مرة، أن يدخلنا في رومانسية جارفة، لولا أن نفاجأ بانعطافٍ وجوديّ مُركّز على لسان أنثاه وهي تغوص بأحاسيسها، أحلامها، يقينها، روحها، على مأزقٍ شعوريٍّ عميق :

نظراتي المختلفةُ

تخترقُ ضجيج الصّمت،

أعيشُ حيرة السؤال.. من أنتْ؟

يوماً بعد آخر تكتمل صورتكَ المبعثرة..

لأزداد بكَ بعثرة…

بين مشاعري… أحاسيسي

دون جرأة أن أخطو..

يقيني أنّ بحركَ كبير..

أعترف.. أنك تعيشيني ابتسامة شفاه

شهقة أشواقي… استثارة حواسي..

يا أنت.. أعيشك حلم يقظتي..

يراودني السؤال: هل أتيت متأخرا؟

تجيبني نشوة روحي

يا من أعاد البعث لي بي..

سأحياك وأحيا حياتي.

هكذا، تبقى التجربة مؤزّرةً بحضور المرأة كمركزِ جدليةٍ نوعيةٍ بين الذات والموضوع، أو فلنقل بين جوّانية الشاعر والخارج، وهو يريد اكتشاف ما لم يكتشف من عالمها بعد، مدركاً بأنّ ذلك مرتبط بتطور وعيه المعرفي بالعلاقات الاجتماعية، وتفاعله معها، ما يعني بداهة، تعددية مواقفه بتعدد مستويات ذلك الوعي، مما يجيبُ بالنصّ على أسئلة التبدلات العاطفية التي تعرّضَ هو أو قد يتعرّض لها أيّ إنسان بالمطلق. وبمعنى آخر فإن الظلّ الوجودي الوارف على كلّ جانب يقدم حقائق صلبة تهزّ القارئ في كل حال وحين، كالندم والهجران والخطيئة والخيانة والحب والكراهية والشوق والنفور، ومن الطبيعي بمكان أن يقع الشاعر فريستها بما هو ركن المواجهة الواقعية مع العالم من حوله، التي إن حملتْ ملامح رومانسية في بعض القصائد، إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية المدلول الوجودي الطاغي بين ثنايا سطورها على امتداد نصوص التجربة ككل. يقول الجريفاني:

لو تعلمين… بل اعلمي…

الكثير ممن في القبور.. لم ينجزوا ما يودون

فكل شيء كان مؤجلا

غدي سيرجع ذات يوم

يا امرأةً

عانقت الوقت فصارت قرينته

ارتدت حياة تراها، لم تحن بعد

يا امرأةً

أدمنت إيقاف الوقت والزمن

تجملت بزخرف الخوف

يا امرأةً

بقيت من ركنها القصي

متوشحة ظل العتمة

ليتك سمعت ما قالته لي الغجرية:

قل للأحياء

الأموات لا يموتون ثانية!

بهذا الشِّعر لا يريد الجريفاني لامرأته أن تتعثّر، ولا أن تتأخر في رحلة البحث عن طموح كبير في حياةٍ ما تنتظرها، أن تتطلع، وهذا حقّها، إلى شيء جديد إنما من العبث أن تتوسمه فيه ليعود إليها، فهو يقر بشرعية أن ترى إلى أمر ما تريده، ولو حاولت إيقاف الزمن لأجله، لكن المبتغى، وباختصار، بعيد ومفقود، أصبح وهماً بكل بساطة وعليها أن تتقبل ذلك برحابة صدر وسِعَة بال، ولا داعي للحزن نتيجة ذلك، فحتى الذين ماتوا لم ينجزوا كل ما أرادوا! هو تخلٍّ عميق، مؤكد الرؤيا، في اتجاه غده الذي يأمل بعودته إليه بغير خسارة، فما مات مرة لن يموت أُخرى. ليس قاسياً الجريفاني في هذا المقام، في الابتعاد من امرأته، إنما هجر جميل، لكنه لا يريد أن يكون مسالماً لأجل المجهول، بل واقعياً جدا، يُنازل قدره ولو أدرك أنه لا يقوى عليه، يرفض ويتمرد ولا يدخل الفوضى، اقتضى أن يقول ما قال متألماً، وهذا وجه من وجوه الوجودية دون شك. لكن الشاعر وبالمستوى الشعوري نفسه، يذهب إلى ضفّة أخرى ليبتكر شكلا ذهنياً يعيد له توازنه النفسي:

أعشقتكَ امرأةٌ كعشقي؟

أعشِقْتَ امرأةً قبل أن تعرفني؟

أستطعتُ أن أُلغي أثَر نسائِك؟

هل عرفتَ معاني الثورة والمقاومة مع غيري؟

يا امرأةً…

سأعترف بعد إذ رحلتِ…

عَشقتُ وعُشِقتْ

عَرفتُ وتعرّفتْ..ففي كل امرأة التقيت

كان ينقصها شيء منكِ

لو تعلمين بل اعلمي…

كل النساء دونك نوافل

إلا أنت وحدكِ فرْضُ عين!

هنا يستعين الجريفاني بكل ممكنات الرمز ليرتفع عن المنجز المادي الملموس إلى المطلق والخيالي والجميل والمشتهى والراقي، سعياً لتقديم امرأة في مكانة حسية عالية، تعرف ما تريد، مُشرقة الصفات فريدَتَها، يحتك بها بأحاسيسه، بخياله، رافضا إلغاءها أو تشييئها وهو يقف موقف الحكيم من جدلية العاشق والمعشوق التي يخلع فيها جبّته على مريديه من القارئِين بلغته الحرّة النابضة بالترقب واستشراف الكلمة الساكنة في ظاهر مفرداتها، والعاصفة عمقا في جوهرها. المرأة في شعر الجريفاني هي الوجود، أقله حتى الآن في تجربته الشعرية، هي الحضور الهائل في العالم من حوله، يتيح لها أن تختار، تتحرر، تجرب، تريد، تقرر، وما هذا إلا تنازل جميل عن ذكوريته، وتمسك حميد برجولته، عَشِقَ أو عُشِق، وبالفاعلية التي يمارس طقوسه المعتادة في اتصاله بها، اتصالاً يعلِّلُ العلاقة حدّ التصوف، حبا بالروح كلازمة دلالية تليق بقصيده، وزهداً بالجسد رمز السقوط في الخطيئة، وهذا هو التحدي الكبير للشاعر العربي في يومياته مع أنثاه.

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي