في ديوان «اعترافات تحت التعذيب»: السخرية والمفارقة في الصورة الشعرية

2022-09-29

حسن بولهويشات

دشّن بيت الشعر في المغرب، الذي يرأسه الشّاعر مراد القادري، دخوله الثقافي لهذا العام بإصدار مجموعة من الدواوين الشعرية في إطار دعم وزارة الثقافة المغربية للمشاريع الثقافية، لأسماء تنتسب إلى أجيال وحساسيات شعرية مختلفة، وإلى أفق القصيدة المغربية المعاصرة في تنوّعها. وتعتبر إصدارات البيت هذه، حدثا شعريّا في حدّ ذاته، بعدما خَفُت التداول الشعري في العقود الأخيرة وصار ممكنا الحديث عن «زمن الرواية» بلغة جابر عصفور.

ومن بين الدواوين التي أصدرها البيت، ديوان «اعترافات تحت التعذيب» للشّاعر رشيد نيني أحد أبرز أصوات جيل التسعينيات في المغرب، الذي ظهرت قصائده في الملاحق الثقافية والمجلات العربية في سنّ مبكّرة، وفي هيئة ناضجة ومكتظة بالروح الساخرة، فيما تميزت جملته الشعرية بالسخاء اللفظي، مستعيرة تقنيات الكتابة السردية. وقد صدر ديوانه الأول «قصائد فاشلة في الحب» (1999) وإن لم يحظ بكرم نقدي على غرار أغلب تجارب الجيل التسعيني في المغرب. فضلا عن «يوميات مهاجر سري» (2000) التي كتبها نيني في إسبانيا وتُرجمت إلى عدّة لغات. غير أنّ نيني سيحظى بكرم القرّاء وإعجابهم حين نجح بأسلوبه وجرأته اللافتة في إيجاد كتابة صحافية جديدة في المغرب. وصار، بفضل عمودٍ يومي ساخر، معروفا لدى المغاربة أكثر من رئيس الحكومة، الملاحظ أن الأقلام الصحافيّة الجيّدة في العالم العربي جاءت من الشّعر وحقول الكتابة الأدبية بأشكالها، وإن كان يصعب على هؤلاء الوفاء للكتابة الإبداعية؛ هناك من يطل ويختفي، وهناك من يستسلم لمهنة المتاعب فتدهسه ماكينة الأيام والزمن إلى الأبد. غير أنّ رشيد نيني حافظ على جذوة الشّعر في مقالاته الصحافية، وظل ينفخ فيها بأنفاسه الصافية.

في «اعترافات تحت التعذيب» يخوض الشاعر تجرية شعرية مغايرة، حيث الديوان عبارة عن قصيدة واحدة بنفسٍ ملحمي متدرج من مقدمة ثمّ وسط وخاتمة، وإن كانت القصيدة قد تمّ توزيعها على شكل مقاطع مرقّمة. كما أن العنوان يضلل القارئ للوهلة الأولى ويُحيل على كرابيج الجلادين وجلسات التعذيب، وعلى ظلام الزنازين المعتمة ومشاهد الرعب العربي، التي تحدّث عنها عبد الرحمن منيف في رواياته المطوّلة، خصوصا إذا عرفنا أن الشاعر سبق أن سُجن لمدة سنة كاملة بسبب مقالاته التي أغضبت جهات عليا. غير أن هذه القراءة الأولية للعنوان سرعان ما تضمحل مع قولة نيرودا التي اختارها الشاعر تصديرا لديوانه: «إن كان لا شيء سينقذنا من الموت، فلينقذنا الحب من الحياة على الأقل». ومع المقطع الأول من الديوان، يظهر أنّ الأمر يتعلق باعترافات من نوع آخر، حيث نقرأ:

«سأقلع عنكِ

كما يقلع مدمن

عن عادة سيئة.

سأتعافى منك

كعاشق يروض ذاكرته

على النسيان

كمريض يتعاطى مضادات حيوية

ضد الحنين.

سآخذ بقية العمر

فترة نقاهة بعيدا عنك

حيث لن تصلني سهامك.

سأوفّر لنفسي المناعة اللازمة

لكيلا يصاب قلبي ثانية

بعدوى وباء الحب الموسمي»

إنّها ثيمة الحب، لكن ليس الحب العذري كما في قصائد شعراء العرب القدامى الذين عانوا مرارة الفقد وقسوة العم والقبيلة. ولا ذاك الذي سطع في قصائد الرومانسيين بنبرة التوجّع والحنين مطلع القرن العشرين، بل الحب الذي يعكس تشظي الذات الشاعرة وتوتّرها في عصر العولمة وصراع القيّم، وتبدّل أحوال الناس وطرائق تفكيرهم في ظل سيادة الوعي المديني واهتزاز اليقينيات والعلاقات الإنسانية، بما في ذلك العلاقات العاطفية. إنّه الحب بصيغة الرفض: سأقلع عنكِ/ سأتعافى منكِ/ سآخذ فترة نقاهة بعيدا عنك/ سأوفّر لنفسي المناعةَ اللازمة/…

وقبل أن نتقدّم في الديوان/القصيدة، نتوقف عند صورة الشّاعر على الغلاف، حيث يظهر نيني بملامح تعود إلى الفترة التي كان فيها مهاجرا سريّا في إسبانيا، أو بعدها بقليل حين عاد إلى الوطن. ومرجّح جدّا أن الصورة، باعتبارها نصّا موازيا، تتقاطع مع الديوان الذي من المفترض أن يكون قد كُتب في هذه الفترة. باستثناء إذا كانت الصورة هي الأخرى تريد أن تظلل القارئ بتواطؤ من الشّاعر، الذي كثيرا ما تمت دعوته لقراءة الشعر فجلس خلف الميكروفون يقرأ القصة القصيرة. وحوّل غير ما مرّة عموده الصحافي إلى قصيدة نثر صريحة في رهان على ذكاء القارئ.

ومهما يكن من أمرٍ وتاريخ، فقصيدة نيني اختارت صوتها الخاص مبكّرا، ويسهل التعرف عليها وسط عشرات التجارب. وذلك من خلال مجموعة من آليات الكتابة الشعرية، أهمها السخرية التي شغلت حيزا مهما من صفحات ديوانه الجديد، نقرأ:

«لدّي غرفة ضيقة في السطح

وهذا لا يعني أنني أتأمل القمر كل ليلة

فموقفي من القمر

كما تعلمين

سلبي للغاية»

أو حين تلوذ الذات إلى تخوم الاعتزاز الذي لا يخلو من أنانية الشعراء. ويكتب الشاعر كما لو أنه يجلس على أريكة مريحة ويبتسم:

«لطالما حذرتك

وقلت لك إن قلبي غابة موحشة

مليئة بالمصائد المغطاة بالقش

كثيرات قبلك مشين فوقه وسقطن في الفخ.

هل تسمعين هذا الصدى

الذي يشبه الأنين القادم من قلب الغابة؟

إنه صوت سقوطهن المريع

في حفرة الحب العميقة»

الملاحظ أن هذه السخرية، تتجاوز كونها ألفاظا متفرقة تتوخّى الاستهزاء وقلب المعنى، بل هي أسلوب يحقق مفارقة تصويرية في النّص الشعري. ويسبر أغوار الذات في مختلف حالاتها مبرزا المتناقضات الموجودة في علاقة هذه الذات بالآخر. غير أنّ هذا لا يعدم وجود بوحٍ صريح بغلالةٍ شفافة من العشق والانتظار، وشيء من الانكسار النفسي، كما هو الأمر في هذا المقطع:

«ليست لي حاسة سادسة

ومع ذلك

لماذا لا يرنّ الهاتف لأجلي الآن

فأجدك في الطرف الآخر من الخط؟

لماذا عندما أركب المصعد

نحو الطابق السادس

لا يتوقف فجأة في الطابق الخامس

لتركبي أنت بالذات؟»

غير أنّ الذات الشاعرة لا تستقر على حالٍ، ولا تطمئن إلى «حبّ موسمي»، إذ يعود الشاعر في جزء وافر من الديوان ليرصد ركام الخسارات وألوان القسوة، ويكتب بلسان المجرّب الذي خبر الحياة، وبما يشبه وصايا في الحب عبر متواليات من الصوّر الشعرية:

«الحب هو الوجع الخادع

في رحم امرأة تتوهم الحمل

عواء ذئب جريح

ضيع قطيعه وراء فريسة أذكى منه.

الحب هو صوت الارتطام المفاجئ

لطائر جريح بزجاج النافذة

القطرة الباردة

التي تتجمع في السقف

مثلما تتجمع الأحقاد

في قلب تسكنه الوحدة»

وقد أضفى تكرار كلمة «الحب» في هذا المقطع، كما في مقاطع كثيرة من الديوان، تأكيدا على دلالة الاستمرار في الزمن، بتظافرٍ مع فعل المضارع بصيغته وسياق توظيفه، الذي مَنحَ النّص دينامية وحياة وتجدّدا في الإيقاع. لنلاحظ كيف حشد الشّاعر أفعال المضارعة بشكلٍ مهولٍ في هذا المقطع، وجعل «القلب» هذا العضو العضلي، يتكلّم ويمشي، بل يركض فيلهث وربما تَعبَ وجلس فوق كرسيٍّ واستراح إلى الأبد:

«سيقولون لك/ يجب أن تستمع إلى حديث القلب / وأن تتبعه إلى حيث يسير /لكن القلب لا يقول شيئا/ ولهذا لا أحد يستمع إليه/ وأيضا لا يمشي في أي اتجاه/ القلب يركض فقط/ لذلك يخفق/ ويلهث طوال الوقت/عندما يتعب/ يتوقف/ يجلس فوق كرسي في الطريق/ويستريح إلى الأبد».

ديوان «اعترافات تحت التعذيب» نموذج قصيدة النثر العربية التي راهنت على المعنى والدلالة بَدَل اللفظ، وعلى الصوت الداخلي وتعدّده بَدَل الإيقاع الخارجي، وعلى اشتباك المخيلة بالفكر، وذلك في تركيبةٍ شعرية أساسها السخرية والمفارقة في الصورة الشعرية. وأيضا نموذج قصيدة جيل التسعينيات في المغرب، الجيل الأكثر حداثة وخصوبة في المشهد الشعري المغربي، والملعون والمظلوم نقديا.

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي