
محمد عبد الرحيم
«إن القضية المصرية قد أفسدها الزعماء ومحترفو السياسة. إننا جميعا بايعناهم بالزعامة، لم يكن يدور في خلدنا أنهم سوف يتاجرون بنا وبقضية البلاد. لم يكن يدور في خلدنا قط أن السعي للاستقلال والكفاح من أجل حريتنا وكرامتنا والعمل على إجلاء الغاصب عن البلاد، سيكون موقع مساومة للوصول إلى مغانم الحكم والثراء الفاحش، وطرح مصالح البلاد وراء ظهورهم، وإيثار مصالحهم الشخصية على المصالح العليا». (أحد نزلاء السرايا الصفرا)
(السرايا الصفرا) أو (مستشفى المجانين) هو الاسم الدارج على لسان الشعب المصري لمستشفى العباسية للصحة النفسية. ودائماً ما أصّلت السينما صورة المريض العقلي في وعي المشاهد، الذي يأتي في الأغلب كشخصية مثيرة للضحك، بما أنها تتفوه بكلام غير منطقي، وبالتالي يكون مدعاة للمواقف الكوميدية، باستثناء بعض الأفلام التي حاولت رسم صورة أخرى لنزلاء هذا المكان الأقسى من سجن، حيث الاستغلال وسوء المعاملة، وعدم الوضع في الاعتبار أنهم مرضى في الأساس. لكن.. في هذا المكان تجد الوجه الخفي للمجتمع، المحافظ على صورته، الذي يلفظ مخلفاته من المختلفين معه ومع قيمه، أو بمعنى أدق شروطه التي وضعها للمواطن الصالح المطيع. فبجانب المرضى من مدّعي النبوّة والزعامة وجنون العظمة، نجد القتلة ومرتكبي الجرائم المختلفة، ممن يدّعون الجنون هرباً من تنفيذ العقوبة.
عالم مثير، ويبدو أي اقتراب منه، خاصة من خلال أحد رواده، أمرا مدهشا بطبعه، ومحفزا على اكتشافه. وقد صدر مؤخراً كتاب بعنوان «السرايا الصفرا.. رحلة في مذكرات مدير مستشفى المجاذيب» للكاتب محمد الشمّاع، الصادر هذا العام عن دار المصري للنشر والتوزيع.
حارس أصحاب العقول
يتناول الكتاب مذكرات المدير السابق لمصلحة الصحة العقلية (السرايا الصفرا) محمد كامل الخولي ـ مواليد 1883 ـ بداية من عمله في هذا المجال عام 1916 وحتى 1953. هذه المذكرات التي نُشرت في مجلة «المصوّر» في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى إبريل/نيسان 1954، في 12 حلقة. تحت عنوان.. «40 عاماً في حراسة أصحاب العقول». تناول الخولي في مذكراته بعض الحالات التي قابلها، وكيف كان يتصرّف معها، البعض مرضى بالفعل، والآخر يتمارض خشية العقاب من جريمة ارتكبها، إضافة إلى حالات جاءت بالتواطؤ من الأقارب طمعاً في ميراث أو ثروة. وهي تنويعات معهودة في مثل هذا المكان. لم تأت مذكرات الرجل أو حكاياته إلا من قبيل التسلية في مجلة يتناولها الجميع من غير المتخصصين، فاهتم فقط بكل ما هو مثير أو يدعو إلى الضحك والسخرية من هؤلاء، دون أي قدر من التأسي، أو حتى العطف. تكشف الحكايات أيضاً من خلال طريقة صياغتها شخصية صاحبها، فهو الساخر والمتعالي على مرضاه، يصف نفسه دوماً بصفات الحكمة وتحقيق العدالة مهما كان الثمن، فهو لا يُخطئ أبداً. وهو أمر يثير الشك في ما يذكره من ناحية، وأيضاً يضع القارئ على مسافة من صاحب الحكايات. فيذكر على سبيل المثال عن إحدى الحالات.. «ومكث هذا المريض ينشر شائعاته وسمومه بين المرضى، حتى أراحهم الله منه، وأراحه من شرور نفسه، ومات غير مأسوف عليه».
بعد انقلاب يوليو 1952
تم نشر المذكرات عام 1954 وبالطبع كان لهذا التوقيت أثره في طبيعتها، فهو يتهم محمد علي وأسرته بوراثة الجنون، فيستعرض حالات من أسرة محمد علي، وصولاً إلى الملك فاروق نفسه. كانت هناك بالفعل حالات مرضية، كالأمير أحمد سيف الدين شقيق شويكار زوجة الملك فؤاد، الذي أطلق على الأخير النار، وتم إرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية في إنكلترا. ولا ينسى الرجل أن يضيف في حلقة من الحلقات على لسان إحدى المريضات بأن (الاستعمار هو سبب الجنون)! يعني.. حاجة كده تفرّح شوية الضباط بتوع الانقلاب.
الغريب أن جامع المذكرات محمد الشمّاع، يأخذ هذه الكلمات ويؤصل بدوره لهذه العبارة، وحتى يتم وصف ما يفعله بعمق البحث وجديّته، فإنه يعرج على الحرب العالمية الأولى، وكمية البارود الذي تم استخدامه، والذي يُقدّر بـ53 مليون قذيفة مدفعية، أثّرت في الجنود والأجيال اللاحقة. وهكذا تتفرع الموضوعات متباعدة عن كنه مذكرات الطبيب المُعجب بنفسه، إعجاباً يقترب من المرض. وهكذا على طول الخط في جميع الموضوعات، دون نسيان تذييل الكتاب بالمراجع التي تبدو مهمة، أو بعض أقوال من صحافيي السبوبة، أمثال.. أنيس منصور وعادل حمودة.
أحرزتُ نصراً للأطباء المصريين
هذا عنوان الحلقة الخامسة، ويحكي الرجل من خلالها أنه انتُدِب لفحص سيدة من أسرة كبيرة، لها ثروة ضخمة موقوفة، أوكلت أحد المديرين إدارتها، والذي كان ينفق منها على هواه، فطلب حفيدها الحجر عليها. وقد حاول المدير رشوة الطبيب، حتى يكون التقرير في مصلحته. وبالكشف عليها تبيّن أنها مصابة بعته ناشئ عن الشيخوخة، كما كانت ترى خيالات وشخوصا في حجرتها، فكانت جديرة بالحجر عليها. فلجأ المدير إلى رئيس الأطباء، وكان طبيبا إنكليزياً، كتب تقريراً ينفي مسألة الحجر عن المرأة. إلا أن المجلس الحسبي أيّد تقرير الطبيب المصري، ورفض تقرير الطبيب البريطاني، فكان نصراً للأطباء المصريين جميعاً. هكذا يذكر صاحب المذكرات. لكن.. هل يكتفي بذلك جامع المذكرات؟ بالطبع لا، فلا بد من التنظير وإضفاء الأهمية، فيبدأ منذ جاء محمد علي بالأطباء الأجانب إلى مصر، خاصة كلوت بك مؤسس مدرسة الطب في مصر، ويضيف.. «لكن الواضح تماماً أن الدكتور محمد كامل الخولي كان يؤكد اعتزازه بنفسه كطبيب مصري، وأن فكرة المنافسة والانتصار على نظيره الأجنبي حاضرة في بال الأطباء بكل تأكيد».
ولي الله الهندي
من الحالات اللافتة حكاية قاتل حُكم عليه بالأشغال الشاقة، ظهرت عليه علامات الجنون، فتم وضعه تحت الاختبار في المستشفى، وثبت جنونه، إلا أنه بعد فترة ادّعى التقوى والورع ـ حسب قول محمد كامل بك الخولي ـ وأصبح اسمه (الشيخ محمد) فتقرّب إليه الممرضون والنزلاء، وقد أصبح صاحب ولاية وكرامات، حتى ذاع خبره خارج المستشفى، فجاء إليه الأمراء والأثرياء. وبالطبع لم يأكل الطبيب من هذه الحركات، فحاول إحراجه واختباره عن الكرامات، فأحرجه الرجل وزاد أتباعه والمؤمنون به. وبعد مغادرته المستشفى استقر في إحدى ضواحي القاهرة، وأسس لنفسه طريقة وجمع حوله الآلاف من المريدين، ثم أذيع بعدها أنه رجل أتى من الهند، وقد أوتي القدرة على شفاء الأمراض المستعصية.
مؤرخ المجانين
حالة أخرى صاحبها في حوالي السبعين من العمر، قضى نصفه في المستشفى. كان مهتماً بتاريخ الجنون والمجانين في مصر. وكان يطلب الكتب والمراجع ليدرسها، حتى وضع سفراً فريداً خطّه بيده، ولم يتح له إصداره بالطبع. بدأ الرجل بطرق علاج المرضى منذ قرنين من الزمن. وتوصل إلى أن عدد المجانين في مصر وقت كتابة كتابه حوالي 7000، هم الذين يعيشون في مستشفى (العباسية) و(الخانكة) بخلاف الآلاف من المجانين الطلقاء. ومن خلاله نعرف أن تسمية (السراي الصفراء) يعود إلى أن المكان كان قصراً يخص أحد أفراد أسرة محمد علي، وكان صاحبه يطلق عليه (السراي الحمراء) وبعد تخصيصه للمرضى استبدل الطلاء الأحمر بالأصفر، فكانت تسميته التي لم تغادره حتى الآن.
من سعد زغلول إلى أمين عثمان
في 1924 قرر سعد زغلول السفر إلى لندن للتفاوض، وقبل مغادرته محطة قطار القاهرة تعرض لمحاولة اغتيال، كان فاعلها طالب يدرس الطب في برلين يدعى عبد الخالق عبد اللطيف، وتم اختبار قواه العقلية، وثبت جنونه بعدما أكد ذلك الطبيب محمد الخولي. الخولي أيضاً قام بالكشف على حسين توفيق، الذي قام باغتيال أمين عثمان في يناير/كانون الثاني 1946 ـ القضية التي اتهم فيها أنور السادات ـ وأقر بأن القاتل مُصاب بـ(نقص عقلي وخلقي) يُسمى بالحالة السيكوباثية، فهو مسؤول مسؤولية جزئية، وقد حكمت عليه المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات.
تصدق الاتنين مجانين!
عسكري ضد الإصلاح الزراعي
«كانت المؤامرة التي دبّرها تدل على قِلة نصيبه من العقل.. مُصاب باضطراب عقلي خفيف لا يعفيه من تبعة المؤامرة التي حاول تدبيرها، كان بطبعه ميالاً إلى إثارة الفتن والدسائس».
كان هذا بعض ما جاء في تقرير الطبيب الخولي، فمن هو المأسوف عليه صاحب الحالة؟ اسمه رأفت شلبي يبلغ من العمر 42 عاماً، ممثل مغمور في المسرح، وكان صف ضابط في الجيش أيضاً. فقط.. سجّل اعتراضه على قانون الإصلاح الزراعي، الصادر في سبتمبر/أيلول 1952، الذي رأى أنه يجور على حق العديد من المُلاك، الذين لا ذنب لهم في فساد المَلَكية، ومنه ستختفي الملكيات الشاسعة للأراضي، ومعه مربو الماشية الكبيرة، وبمرور الوقت ستزيد أسعار اللحوم والأحذية والحقائب. لم يفعل الرجل سوى الحديث بأفكاره إلى أحد الأصدقاء، الذي ذهب بدوره وأبلغ عنه بأنه (عدو للثورة) وبالفعل تمت محاكمته من قبل محكمة الثورة، التي ترأس جلستها حسين الشافعي، وكانت تشكيلة التهم.. إحداث فتنة في القوات المسلحة، وإعادة الملك السابق، وصدر الحكم بالسجن المؤبد، ثم تخفيف العقوبة إلى السجن 15 سنة. ولنا أن نعقد مقارنة بسيطة بين حديث الرجل، وقائمة التُهم التي نالته، وفي الأخير تقرير الطبيب صاحب المذكرات لنرى كيف تُدار مثل هذه الأماكن، وكيف تعمل في الغالب في ظل السلطة التي تحرّكها، وإن كان هناك بعض من حرية في إبداء الرأي أيام العهد الملكي، إلا أنها انتفت تماماً منذ انقلاب العسكر وحتى الآن.
كاتب مصري