«شموع على أرصفة الكرادة»: تقاطعات سردية تتنبأ بمصير مؤلم

2022-09-17

خالد أيوبي

من المفارقة حقاً أن الشخصيات المحتفية بالحياة وتفاصليها المبهجة قد سقطت في الانفجار الإرهابي الذي استهدف المجمع التجاري في منطقة الكرادة وسط بغداد، في حين كان الإرهابي الذي نفذ العملية، لم يعرف قيمة الحياة ولم يلامس بهجتها، هو الناجي الوحيد. مفارقة عسيرة يضعها أمامنا الكاتب العراقي جمال حيدر في روايته «شموع على أرصفة الكرادة» الصادرة حديثاً عن دار لندن للطباعة والنشر، في العاصمة البريطانية.

في لغة تقترب من حواف الشعر، يدوّن حيدر روايته الثانية، المزدحمة بتوقع حدث جلل سيشهده الحي البغدادي العريق، توقع يتفاعل في دواخل الجميع، لكن لا أحد يعرف كنهه، حدث سيترك وجعاً في القلب، وخدوشاً في وجه الحياة، لكنه سيبقى عصياً على الفهم. ومع ارتفاع منسوب الأحداث يرتفع بالمقابل التنبؤ بمصير مؤلم سيأتي. في هذا المناخ يسرد الكاتب أجواء روايته، التي يمتد مداها الزمني نهاراً كاملاً، مسترجعاً حيوات الشخصيات خلال ساعات ذلك النهار التموزي القائظ. وعبر تفاصيل حياتية بسيطة نتعرف عن كثب على الساعات الأخيرة من حياتهم، وما رافقها من منعطفات قادتهم إلى المجمع التجاري ليلاً: بائعو بسطات، مارة، أصحاب محال ومتاجر، رواد المقاهي المجاورة، مرتادو المطاعم، يلتقون حيناً ويتباعدون حيناً آخر، وربما يتقاطعون في مسارهم، ليتجمعوا معا مصادفة في لحظة الانفجار ليشكلوا معا الحدث – الرواية.

استند حيدر إلى سردية الحدث المؤلم، مستخدماً في الوقت ذاته الأسماء الحقيقية للشهداء الذين سقطوا في الانفجار، غير أن حكاياتهم، كما يذكر في مقدمة الكتاب، هي فعل روائي بحث، في محاولة للمزاوجة بين التوثيق والسرد. ومن ست عشرة شخصية رئيسية، إلى جانب شخصيات أخرى تدور في هامش الحدث، تتقاطع أحياناً في ظهيرة رمضانية، لينقل لنا حيدر أحلامها، موشجاً ماضيها بنهارها الأخير. المكان هو الآخر كان من الدعائم الأساسية للرواية، حي الكرادة.. حيث ينتمي الكاتب إلى ذلك الحي البغدادي العريق، الذي احتضن تعددية المجتمع العراقي الدينية والمذهبية والفكرية، ليغدو السبب المباشر لاستهدافه، خاصة مع انغلاق الفكر الإرهابي الدموي وتكفير المختلف وإعلانه عدواً. هناك حكمة مبطنة تظهر أحياناً بين السطور، سرعان ما تختفي لصالح اليومي المعاش، حكمة تنطقها شخصيات الرواية في حواراتها وتفكيرها، تشدد هذه الحكمة على ضرورة التمسك بالحياة، كونها هبة تمنح لنا مرة واحدة لا غير، كذلك على أهمية الحياة التي تتقاطع مع الآخر المختلف، كون الاختلاف سمة الحياة ومكملا لها، ومن دونه يجعل الحياة ببعد واحد ولون واحد ورؤية واحدة. كل هذه الأفكار تبرز بصورة واضحة لتشكل مديات العمل وخطوطه الرئيسية، بعيداً عن المباشرة والتلقين.

أجاب الكاتب في حديث معه، عن الفارق الجوهري بين روايته الأولى «أجنحة في سماء بعيدة» الصادرة عن الدار نفسها، وروايته الثانية، «في الرواية الأولى تدور الأحداث في مقبرة لتبدأ منها الحياة، أي بمعنى آخر تبدأ من العدم وتتقدم نحو الحياة، فيما تشرع الرواية الثانية فصولها الأولى صوب الحياة بكل تقاطعاتها لتنتهي بالموت والعدم». في الفصل ما قبل الأخير المعنون «أرصفة» نجح الكاتب في أنسنة الأرصفة، حيث بعث فيها الروح ودفعها للحوار مع المارة، راجية منهم الابتعاد عن المجمع التجاري والأرصفة المحاذية له، إثر شعورها بخطر مقبل ستشهده بعد ساعات قليلة، إذ كانت تتوسل بهم وهي تكابد ألمها: «أيها المارون، أيها المارون، لا أحب الموت، لا أطيقه. امكثوا في بيوتكم وأوصدوا أبوابكم، ثمة عاصفة من بكاء ستمر من هنا». ولكن من الذي ينصت لأرصفة، من الذي فكر في روحها الصماء؟ الجميع ماض في دربه، غير إنها تعرف المارة من وقع أقدامهم، محتفية بهم وبخطواتهم، ومن تلك الخطوات ترسم صوراً لوجوههم وأجسادهم. الأرصفة ذاتها حملت أوجاع الناس منذ عقود، حين طافت الدماء في الشوارع وأرصفتها إثر القرار المرقم (13) قبل نصف قرن ونيف. لم ترقد الأرصفة مذاك، لم ترتح، ظلت حائرة من دون أن تعرف ماذا سيحل بها وبالبشر السائرين على جسدها. في فصلها الأخير نقلت لنا الرواية الدقائق القليلة الفاصلة بين مشاعر الضحايا وسقوطهم الأخير، واصفة لنا معاناتهم الإنسانية في مواجهة عارية مع الموت، مواجهة معروفة سلفاً نتائجها، إذ بدأت الأجساد تسقط تباعاً تاركة حلم النجاة يغفو بين جفونها. أبرياء دفعهم القدر إلى المكان في تلك الليلة لأجل التسوق للتهيئة للعيد المقبل بعد أيام قلائل. هناك أيضاً شباب جمعهم شغف مشاهدة مباراة كرة القدم بين ألمانيا وإيطاليا في المقهى الملاصق للمجمع التجاري، ليغدو تالياً مشهداً مفتوحاً على الوجع العراقي الذي لم يهدأ أبداً.

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي