
حسن داوود
لأنه يروي حكايته بنفسه يظل هذا الرجل بلا اسم، الآخرون الذين يخوض معهم علاقاته العاطفية وصداقاته تسبقهم أسماؤهم إلى الحضور (رايا ونونّا وسالم وماكسيم فاديميتش وآخرون). لم يحدث إذن، على مدار صفحات الرواية، أن نادى عليه أحد باسمه. ولم يجهر هو، الممسك بزمام الكلام، باسم له. في ما سبق كنت أفكّر في أن ذلك راجع إلى أن الكاتب تأخّرعن ذلك. كأن يكون قد انتبه وهو في الصفحة الثلاثين أنه لم يسمّ بطله بعد، وأنه لا يستطيع الآن أن يصحّح ما كان قد غفل عنه، لكن الاسم الذي أعطاه فرانز كافكا لبطل روايته «المحاكمة» وهو K، بذلك الحرف الواحد، يدفع إلى الظن بأنه ينبغي الحذر مما تضفيه الأسماء على من تطلق عليهم.
بطل رواية «منديل بالفراولة» يظل بلا اسم إذن، لكنه، مع ذلك، يبدأ بالكشف عن دواخله منذ مغامرته الأولى فيقول إنه يؤثر الغياب والسهو في حضور الآخرين، وهو خبير في ذلك. يستطيع مثلا، وهو في مكتبه يستمع إلى زميل يكلّمه، أن يسبق محبوبته رايا الأذرية في الوصول إلى عاصمة بلدها باكو، بل إنه يستطيع أن يسبقها عدّة مرات راكبا كل مرة قطارا مختلفا، بل راكبا في قطارات كثيرة تنطلق في وقت واحد من موسكو وليننينغراد وريغا وفيلنوس وكييف وخاركوف وطشقند وسائر عواصم بلدان الاتحاد السوفييتي، الذي رجعت الرواية إلى زمنه. وكان يصل إلى محطة قطار باكو في أوقات متقاربة، مخترعا لنفسه، مع كل نزول له، عذرا مختلفا لعدم مرافقتها في رحلتها، أو أسبابا تعود إلى المتاعب التي لاقاها في كل رحلة من رحلاته الكثيرة هذه.
خليل الرز الروائي، يستطيع أن يذهب في تداعياته عن بطله، بل في هذياناته عنه، إلى حيث لا نهاية. في أحد المشاهد يجعله يسترسل في توهّماته وهو يكلّم رايا على الهاتف، فيرى وهي على بعد آلاف الكيلومترات عنه، أنها تستطيع أن تتبين الازرقاق في عينه، ذاك الذي نتج عن تلقيه لكمة في الملهى الليلي، حيث كان بصحبة فتاة أخرى، بل إن رايا تستطيع أن تعرف، من تلك المسافة نفسها، إن كان يحمل بيده دميتها التي أحضرها معه من أجل ذلك. أما ما يستطيعه خليل الرز فعلا فهو ترك العنان لخياله المسترسل من دون توقّف، والانسياق بكتابته، بل بملاحقته واتّباعه بما يذكّر بما كان أحد الكتّاب قاله مرّة عن الشعور بالحرية العارم، الذي يلازم لحظات التدفق الثري للكتابة.
ومع أن الكاتب يذهب بعيدا في تحليل فرادة بطله، لا يغيّب أبدا الطابع الطريف، بل الهزلي الذي يصبغ كل موقف غرامي، أو غير غرامي، بل إن الالتماعات التي نقرأها كاشفة بعمق عن شخصية ذاك الرجل (البطل)، تكون هي مادة الهزل الذي لن تتردّد الرواية في الاسترسال فيه بدوره. كأننا نقرأ فصول سخرية من الجدية التي لازمت الكتابة الأدبية في تاريخها. فالمشهد الواحد من رواية «منديل الفراولة» نصْفُه رومنطيقي نصفه تهكّمي، أو نصفه مأساوي نصفه هزلي. الشخصيات كلها منقسمة بين هذين النصفين، ولنتذكّر هنا الفصل الأخير من الرواية، ذاك الذي يحتفل فيه بعيد مولد محبوبته، الجديدة والأخيرة في الرواية، نونّا. وكذلك هي جامعة للموقفين بين أن تلحّ علينا بمتابعة قراءتها، على نحو ما تأخذنا إلى ذلك روايات التشويق، وأن يكون كل ما نقرأه قائما على نسج تهكّمي وساخر.
لذلك بدا مقبولا، بل طالعا من السياق السردي ذاته، أن يكود الراوي المتذكّر سنوات عيشه في موسكو في سنوات الستينيات، أقرب إلى ناقد جمالي وتشكيلي في تعيينه الفوارق الفادحة بين الخطّ الكوفي وخطّ الثُلث. نقرأ ذلك كما نقرأ نصّا نقديا، وكذلك هي حالنا إزاء مسائل أخرى تدور حول تبدّل دلالة معنى الفراولة في التاريخ والأدب، من زمن اليونان إلى مسرحية «عطيل» لشكسبير، حيث في الرسوم القديمة كانت الفراولة ترمز إلى النقاء والعفّة في المشاعر الغرامية، ثم تحوّل رمزها في ما بعد إلى الحبّ الشهواني والداعر. أما المقاربة التاريخية هنا فمتداخلة مع أكثر مشاهد الرواية هزءا وسيريالية، وجنسية في الوقت نفسه، وذلك حين يحضر رجلنا، حاكي الرواية وبطلها في آن معا، تغطيس العاشق فولوديا لقدمي معشوقته نونّا في اللكَن المملوء بالفراولة مذكّرا بأن قوما سابقين كانوا هكذا يصنعون خمرا من هذه الفاكهة.
بعد روايته «الحيّ الروسي» التي جرت قراءتها سابقا على هذه الصفحة، يكشف لنا خليل الرز عن موهبته القادرة والمبدعة في مزج ما هو خيالي بما هو حقيقي، وعن قدرته على مزاوجة الممكن بغير الممكن، كما يعيدنا، في هذه المرة أيضا، إلى موهبته في السرد، تلك التي من نوع أنك، فيما تكون منهمكا في شغل لك، تروح تفكّر بالرواية المطوية على حيث كنت وصلت بالقراءة، مشتاقا للعودة السريعة إليها.
رواية «منديل الفراولة» لخليل الرز صدرت عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف في 248 صفحة – سنة 2022
كاتب لبناني