الألم والضحية في رواية «رغبة بيضاء» للتونسية وحيدة المي

2022-09-16

أصيل الشابي

لكتابة الألم مداخل متنوعة في الرواية التونسية. ولا شك في أن قارئ البشير خريف، بوصفه من أكبر الروائيين في تونس، سواء في روايته» الدقلة في عراجينها»، أو روايته الأخرى» برق الليل» يلاحظ هذه الكتابة في سياقين، واقعي في الأولى وتاريخي في الثانية. وتبرز الشخصية في الروايات الجديدة التي يهيمن عليها التجريب، صوغ الألم بأدوات حداثية قد يغلب فيها الشعري على غيره من أساليب القول، كما قد يغلب فيها استفزاز القارئ وجعله طرفا آخر كاتبا للمضمرات ومؤولا للإشارات.

ويشتغل نص رواية «رغبة بيضاء» لوحيدة المي الصادر في طبعته الأولى عن دار الكتاب في تونس في سنة 2021 اشتغالا طريفا، تلوح طرافته من الوهلة الأولى في المراهنة على المدخل النفسي واتجاه الكاتبة نحو تلفيظ الشخصية الروائية ذاتيا له علاقة بعجزها عن الحركة الطبيعية وعماها. ويتطور التأزم الداخلي من خلال الحوار الباطني في شكل أساسي، ما يقطع هذه الشخصية ظاهريا عن محيطها، ويرسم مأساويتها بشكل مضاعف. وما من غرابة في أن هذا المدخل النفسي يذكّر بروايات كبيرة من أبرزها على الإطلاق «الجريمة والعقاب» للروسي فيودور دوستويفسكي و»آخر يوم لمحكوم بالإعدام» للفرنسي فيكتور هوغو و»الاحتقار» للإيطالي ألبرتو مورافيا وغيرها، دون أن ننسى ألبير كامو في جميع ما كتب، حيث يعلو الصوت الداخلي على غيره من الأصوات، من خلال البوح والهذيان والحلم، وصولا إلى الجنون ذاته بوصفه شكلا من أشكال الموت المبيت، الذي يتربص بالشخصية الروائية في هذا الركن أو ذاك، في هذه اللحظة أو تلك.

طبيعة الصراع في الرواية

يواجه نبهان على طول الرواية شخصيات متنوعة يحاول تجاوزها للظفر بحريته، ولكن ذات الفعل لا تصل إلى محور الرغبة لتحقيق مرادها، فتصطدم بـ»الجراء السوداء»، أي بعلياء والسيدة المجهولة فاعلة الخير وماجدة ووديان، ثم يتسع الصراع كلما انفتحت الذاكرة أكثر وعاد البطل إلى ماضيه، ليشمل الأب والبوليس الذي اعتقله، بينما كان على وشك العبور مع ريحانة إلى عالم مختلف موسوم بعشق دفين ينبع من الذات.

يتحقق الصراع على لسان البطل في ظل حوار باطني طويل لا يقطعه سوى ما كتبت ريحانة بشكل شعري وامض» القلوب الهاربة من قفازات الثلج يلبسها الحب برانيس الدفء… تبعث فيها الحياة وتركب خيولها إلى السماء». وصوت ماجدة في نهاية الرواية وقبله صوت وديان، ولا يقطعه إلا الحوار في مواضع يثور فيها نبهان ويدخل في نوبة جنون، ليكون القارئ في مواجهة هذه الذات العمياء السجينة في مستشفى ثم في مأوى تديره سيدة مجهولة، وهي ذات معطوبة تقول عن نفسها وهي تتشمم الأخبار في المأوى: «أتلمس الأبواب والنوافذ.. أزحف كسحلية ملتصقة بالجدران. أتشمم رائحتها..». وتصف نفسها بأنها جثة 77، ولا تتحقق متعتها إلا وهي تسمع من كوة ذاكرتها أغاني المغنية الفرنسية إديث بياف ومنها أغنية الحياة الوردية. ويغوص المتكلم باستمرار في ماضيه ليستعيد الأحداث وعلى رأسها اعتقاله وفقدانه لحاسة البصر، إثر تعذيبه في السجن بوصفه طالبا يعتنق أيديولوجيا، فيتلون الصراع بطابع اجتماعي وسياسي في ذاتية من أبرز ميزاتها البوح الذاتي، حيث تبوح الشخصية لنفسها، كما لو أنها تخاطب شخصية أخرى مجسدة بذلك ما يطلق عليه تقليديا الجنون.

ما يحدث في حاضر السرد هو مثيرات تعيد البطل بقوة إلى الماضي وصولا إلى طفولته، فسلطة المأوى تذكره بسلطة الأب المتدين المتشدد داخل الأسرة، وسلطة البوليس داخل السجن وخارجه في ثمانينيات القرن الماضي لما واجه التوجهات الأيديولوجية المرتبطة بالتحولات الإقليمية، خاصة تلك المتصلة بالثورة الإيرانية، والمشترك بين هذه السلطات، النيل من الجسد وتكبيله وتحويله إلى جثة يقع نقلها من قفص إلى آخر، فقد كانت كل الأمكنة أقفاص. ومن مظاهر الذاتية المعبرة عن الصراع تحول الذات إلى ذات راسمة لأناها.

استطاعت الروائية وحيدة المي أن تتوغل في عوالم البطل المذكر وأن تجعل من الألم مجلى للعواطف الإنسانية القوية والانكسارات المدوية في أعماق الضحية وفي المجتمع.

الذات الوهمية راسمة ومرسومة

تنجلي صورة الذات الوهمية الراسمة في مفتتح الرواية، فتأخذ في رسم محيط وهمي تراه هي فقط «جدران وردية ـ السماء سجاد أزرق ـ الدانتيل الأحمر ـ زهرة برتقال بيضاء مشربة بصفرة ـ قبرة سوداء، تغص السماء بالخضرة ـ تنهال على القبرة.. تنقر بؤبؤي.. تمتص عيني وتتركني في الظلام..». تظهر الذاتية هنا من خلال اختلاط الواصف بالموصوف، فالبطل غير قادر على التخلص من انفعالاته التي تعصف به وتدمجه في عالم فانتازتيكي مرعب يرتفع ضمنه الجسد إلى أعلى ويتحول أزرق السماء إلى سجاد، وتهجم فيه القبرة على العينين تفقأهما وتمحو البصر وتُحل الظلام محل الألوان، فينتج من هذا الانتقال من اللون إلى انعدامه الذي هو السواد في منطق تشكيلي يذكر بعنوان الرواية «رغبة بيضاء»، فالأبيض كناية عن التشكيل الفني لدى الرسام لأنه يحكم بقية الألوان تماما كالأسود، مع فارق أن الأسود ممحاة على عكس الأبيض. ولما كانت الرغبة ملتبسة بالبياض فإن لهذا صلة تربط من البداية الرواية بالرسم، كما تربط الرغبة بالمحرم.

يمثل المشهد القصصي الافتتاحي في الرواية في هذه الصيغة نواتها الصلبة، فهو يتضمن عناصرها الأساسية بأسلوب رمزي، من أبرز مؤشراته تأرجح البطل بين الرغبة في التحرر من جهة والسقوط المدوي من جهة ثانية، والعودة إلى واقع الجسد الجثة، هذا الجسد الذي أماته الألم. وينبثق العالم الروائي من هذا المشهد لينطلق في سياقات تطوره دراميا بالاستناد غالبا إلى آلية التذكر، فالماضي يد تطارد البطل، يقول عنها: «تحكم قبضتها على عنقي، تمجني ثم ترميني في أكثر من اتجاه لتعيدني إلى الواقع دميما موجوعا…». يظهر الزمن من خلال هذا شخصية تنكل بالبطل فترمي به إلى واقعه ليتحول إلى ضحية متألمة في المأوى، فهو ممنوع من الحركة، وممنوع من معرفة صاحبة المأوى المجهولة، وممنوع من معرفة الرجل الآخر الذي أدخل للمأوى وقتل فيه، وممنوع من الخروج، وممنوع من التجول داخل المأوى.

الألم يحول البطل إلى مسخ

لقد تحول نبهان إلى مسخ، تقول عنه وديان لنفسها: «أراه يعدل نظارته من خلف الزجاج ويدير رأسه في كل اتجاه يبحث عن شيء ما، ثم سرعان ما تتحنط حركته ويشرد في صمت عميق وكأنه نائم. تحريك أنفه علامة مميزة وكأنه يتشمم ما يحيط به. يجس ما حوله بحاسة الشم، كثيرا ما يشعرني ذلك أنه من سلالة القطط والجراء». ويقول هو عن نفسه لاعنا ماجدة وعلياء: «أتسلل إلى غرفتي موجوعا، داميا من الداخل، يتملكني خوف شديد من الحيتين الناعمتين. بت أخشاهما. هما من الطينة نفسها، قذفتا صاحبي إلى التراب في برود تخفيان حقيبة من الأسرار، غدا تقذفانني بالطريقة نفسها، تتصلان بشركة الدفن وتتخلصان مني بحفاظتي وبلا غسل وربما بلا دفن». يندرج الإلحاح في هذين الشاهدين وفي مواضع كثيرة أخرى من الرواية في إطار رسم البطل رسما تنجزه الذات بالبوح، وآخر تنجزه الشخصية الأخرى وهي هنا معينة الحياة وديان، والرسم في الحالتين تجسيد لسقوط نبهان إلى ما دون مرتبته الآدمية، بفعل الألم الذي سُلط عليه، وهو ألم مضاعف لأنه لم يرتكب ما يجلبه عليه، فلم يكن معارضا سياسيا حتى تؤذيه السلطة، كما أنه ألم مضاعف يجعل معاركه وهو غارق في الظلام بلغته، مستمرة بلا هدنة تذكر، سمتها المرارة والغدر المبيت لا يفيده في الاستعداد لها تحسسه للسطوح وتشممه للروائح وتسمعه للأصوات إلى أن تنغلق الرواية بصوت أنثوي هادر: «لا تدعنه يغادر الغرفة حتى انتهاء الحفل، بعد ذلك نتولى أمره».

سيلاحظ القارئ استعمال قناع الحيوان هنا وهناك بدءا بالقبرة التي تنقض على عيني نبهان الفريسة، ومرورا بكونه جروا يتشمم الروائح وسحلية يلتصق بالحيطان وصولا إلى نسوة المأوى «الجراء السوداء» يعتقلنه في الغرفة وما ينتجه ذلك من إعلان للموت في صور يغيب فيها الحس الإنساني، فالعمى، الذي يُستصفى من الرسم والصور، إنما هو عمى السلطة والمتسلطين، وعلى رأسهم الأب والدليل هذا المسخ، تُقرأ فيه الذات ومن خلاله هو يُقرأ المجتمع كما تُقرأ الجريمة. ويبقى صوت إديث بياف يعبر الرواية بصوت ماجدة العذب ليربط البطل بالحياة ماضيا وحاضرا. لقد استطاعت الروائية وحيدة المي أن تتوغل في عوالم البطل المذكر وأن تجعل من الألم مجلى للعواطف الإنسانية القوية والانكسارات المدوية في أعماق الضحية وفي المجتمع.

كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي