ديوان «أول البوح آخر الصمت»: بين القراءة والتأويل

2022-09-15

عز الدين المعتصم

شكّلت التجربة الإبداعية للشاعر جواد المومني منعطفا حاسما أعلنت من خلاله إحداث قطيعة إبيستمولوجية مع مفاهيم ظلت مهيمنة ردحا كبيرا من الزمن، إذ كرّس المبدع ذاته لتهذيب الجانب الروحي في الإنسان بوساطة توظيف جملة من الموضوعات التي تُفصِح عن تجربة روحية قوامها المجاهدة والمكابدة، وصراع الأهواء، قصد الخروج بها من أدران العالم المدنَّس إلى صفاء العالم المقدَّس، فانسابت كلماته لتحل في المتلقي حلول الاتساق والتجاذب والتناغم. وعلى هذا الأساس تروم هذه الورقة ملامسة مستويات القراءة وسؤال التأويل في ديوان «أول البوح آخر الصمت» للشاعر جواد المومني، إذ يعد الديوان تجربة إبداعية لا تخلو من فرادة وتميز. ولعل أهمَّ مفتاح لسبر أغواره هو مفتاحُ الذات، الذات التي تبحث عن جوهر الحقيقة في كنه الوجود.

حول فعل القراءة

يعد فعل القراءة نشاطا خلَّاقا يقوم على الهدم والبناء، ويستمد هذا الفعل مرجعيته من جمالية التلقي التي انبثقت من مدرسة كونستانس الألمانية مع الرائدين هانس روبرت ياوس وفولفغانز إيزر، إذ تهتم هذه النظرية بالقارئ الذي لم يعد مجرد مستهلك للنص، بل منتجا كذلك؛ يعمل على إخراج هذا النص إلى عالم الممكن؛ إذ لكل قراءة منطق لنفوذها داخل النص، ولكل قارئ استراتيجيته الخاصة وراء قراءته التي تسمح له بالاختيار والترحال والاغتراب، وفقا لما يصبو إلى تحقيقه في لحظات الكشف والرؤيا. لأن القراءة ليست مسحا بصريا للنص، ولا تفسيرا معجميا لألفاظه، واستنباطا لمعانيه المباشرة، فهي فعل خلَّاق كالإبداع نفسه.

ومن هذا المنطلق يعد العنوان العتبةَ النصيةَ التي توجّه القراءة، وتقيم مساحة نصية بين الشاعر والقارئ لتشكيل تكهناته بخصوص فحوى النص، ويكشف عن مضمون النص ودلالاته، ويستفز القارئ للتطلع إلى ما وراء النص وفك شيفراته قبل الولوج إلى عالم النص. ومن ثمة، فإن العنوان تنبني وظيفته على تشييد تمثّلات ذهنية أولية لدى المتلقي، وانطباعات مسبّقة حول مضمون الديوان. ويتكون عنوان الديوان «أول البوح آخر الصمت» من المقابلة، آخر مقابل أول، والصمت مقابل البوح، إذ توحي الثنائيات الضدية بظاهرة فلسفية نهل منها النقد الأدبي منهلا واسعا، ولعل جمالية الثنائيات الضدية تنجم عن الجمع بين ضدين في بيئة واحدة، وهذا ما يؤدي إلى تعميق البنية الفكرية للنص، بالحركة الجدلية بين الثنائيات الضدية. وفق هذا الطرح نُلْفِي الشاعر يبوح في مستهل الديوان في قصيدة «أسيرا أسير» بالشعور بالألم جراء الوحدة في هذا الكون الرحب.

وعلى هذا الأساس يعد الأدب رسالة فنية تختلف عن الرسائل اليومية، التي تتم وفق اللغة العادية. وما تعرفه اللغة من ديناميكية في الزمان والمكان، هو ما يجعلنا نؤمن بأن متن «أول البوح آخر الصمت» تجربة إبداعية للشاعر جواد المومني تنقل انفعالاته ومشاعره ومواقفه إلى الآخرين، بالاعتماد على قوة التصوير والتمثيل والإيحاء، ولذلك تتعدد الألفاظ والصور والأساليب بتعدد المواقف والانفعالات، إذ تتجلى اللغة الإيحائية في علاقتها بسياقاتها المتباينة، التي تقتحم العوالم العميقة لجسد النصوص، مبرزة قدرة ومهارة الشاعر في صناعة المعنى وابتكار صور بلاغية خلَّاقة. وما تعرفه اللغة من تطور في الزمان والمكان، هو ما يدفع بنا إلى الإيمان العميق بأن لكل تجربة إبداعية لغتها الخاصة بها، تغتني باغتنائها وتتنوع بتنوعها، ومن ثمة، تكون القصائد الشعرية مختلفة الطعوم، متنوعة الأساليب، لكل منها نكهتها المتميزة، بما استمده الشاعر من ثقافته الخاصة وتدفقاته الشعرية، كل ذلك يفضي إلى التفاعل مع التجربة الإبداعية للشاعر جواد المومني الذي يتوسل برمزية الناي في المقطع الآتي:

أفطرنا صرخة الناي الجريح

وأنامنا ملء جفون الأحجيات،

هو لا غيره…

أودعنا سرّ تلك الرائحة

صرخة الناي الجريح التي وظفها الشاعر جواد المومني في هذا المقطع الشعري، تتداخل وصوت الطير التي استلهمها المتصوفة في خطابهم الشعري، إذ نظرت العرفانية الصوفية إلى الطير نظرة خاصة، رمزوا بها إلى الروح وتذكر عالمها المثالي الأول، وحنينها إليه حنين الغريب إلى وطنه. ويظفر القارئ بهذه الدلالات في قصيدة ابن سينا العينية، وفي «رسائل الطير» والمنظومات المطوّلة كالقصيدة المعروفة بـ»منطق الطير» لفريد العطار الذي استخدم الطير أسلوبا رمزيا في صياغة شعرية حافلة بخيال واسع وصور مبتكرة متنوعة، كما اتضح في كتابه منطق الطير. وكان لهذا السبق لابن سينا والعطار أثرهما في شعراء التصوف الذين استخدموا الحمام (الورق) الذي يشير إلى الروح التي تحِنُّ إلى مصدرها النقي، فنجدها في تنازع بين العلو والهبوط، تشدو تارة وتبكي أخرى. يقول ابن الفارض في التائية الصغرى:

وَلَولاكِ مَا اسْتَهْدَيت بَرْقاً، ولا شَجت

فُؤادِي فأبْكَـــــت إذ شَدَتْ وُرْقُ أَيْكـَة

فَـذَاكَ هُـــدَى أَهْدَى إِليَّ وهَذِه

عَلَى العُودِ إذْ غَنَّتْ علَى العُودِ أَغْنَت

وهذا الأمر يدل دلالة قوية على أن الخطاب الرمزي، الذي توسل به الشاعر جواد المومني، هو مزيج من الغناء والإنشاد والتلحين والتمثيل، والتخاطب الشعوري الشَّفَّاف الذي يهدف إلى إثارة كوامن النفس البشرية، وإلى ربط الحقائق الحياتية بالوجدان الإنساني، وليس بمنطق العقل ولا تحت رقابته ووصايته. ومن هنا أثار صوت الناي الجريح رغبة الشاعر الخفية، وأفصح عن مشاعره المكنونة بواسطة صوته المكلوم ليصير خطاب «أول البوح آخر الصمت» خطابا وجدانيا روحيا تنكشف فيه، أو من خلاله، النفس للنفس، وتتناجى الروح مع الروح، ويتعانق القلب مع القلب في جو روحاني باطني ينير الدروب المعتمة.

إن رولان بارت الذي قيل عنه إنه أمات المؤلف، في المقابل نادى بحياة القارئ وبأحقيته في إنتاج النص وإعادة كتابته، لأن العلاقة عنده بين القراءة والإبداع ليست علاقة إرسال واستقبال، أو علاقة إنتاج واستهلاك، بل إن فعل القراءة، من منظور بارت، هو فعل انتشاء ومعاناة جمالية، أو هو متعة صوفية؛ أي دخول في حضرة النص وحضيرته، ولذلك لم يعد ينظر إلى النص باعتباره بنية مغلقة، أو إلى المؤلف باعتباره الخبير الأول بدلالة النص، وإنما صار ينظر إلى النص في بعده التفاعلي الجديد الذي يدخله في علاقة بالقارئ. ومن ثمّة، يصرح الشاعر بأن اللغة التي وظفها في شعره تقتضي قارئا خبيرا يكدّ عقله ويُعمل فكره لاستكناه الموضوعات التي تتّسم بالدقة والعمق. يقول الشاعر في قصيدة «أسيرا أسير»:

كل ذا اللون يحملني

كل ذا الشط يأسرني

ليس بي.. إلا تأويل

البياض

تختلف مستويات المتلقين في قراءاتهم للنصوص التي تحتمل التأويل، لأنها تؤدي حتما إلى تفاوت القراءات. فقد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل فيكسوه بعبارة قوية تميزه عن غيره من الوجوه القوية. غير أن التأويل المراد هنا ينفتح على الكشف والذوق، ويقوم على الحفر في مدلولوات اللغة الشعرية ومضمرات النص، فهو إرادة للمعرفة تصقلها التجربة الروحية، وما يحياه الشاعر من تأملات وتمارين روحية وسياحات جسدية هدفها تحقيق قدر أكبر من التعالي الفكري والروحي في اتجاه المطلق.

على سبيل الختام

استنادا إلى ما تقدم من طرح، نستطيع القول إن اللغة الشعرية التي توسّل بها الشاعر جواد المومني تستدعي من المتلقي كَدَّ العقل وإِعْمَالَ الفكر، بهدف فهم الخطاب الشعري وكشف مفاهيمه وإبراز معانيه ودلالاته، لأن النص لا يكتسب صبغته الإبداعية إلا بقدرته على الانفتاح على جهاز قراءة تبلورت مفاهيمه ضمن تصور وجودي. ومن هذه الناحية غدَت نصوص «أول البوح آخر الصمت» تتضمن طاقة جمالية كامنة، تقبل الانفتاح على دلالات موازية؛ إذ كلما كان النص الشعري متضمنا لطاقة جمالية كثيفة، انفتح على القراءة التأويلية المبدعة والخلاقة، لأن الغاية من الدراسة الأدبية لا تعني الأدب كله، وإنما ما يجعل منه إبداعا أدبيا.

كاتب مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي