الباحث العراقي علي المرهج: علينا التخلص من وهم الذات العربية المتفوقة

2022-09-14

حوار: محمد القذافي مسعود

علي المرهج أكاديمي عراقي، يترأس قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية، له العديد من المؤلفات، منها «النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة» «الفلسفة البراغماتية ومبادئها» و»علي الوردي وراؤه المنهجية والفكرية». كذلك المقالات الفلسفية في الدوريات العراقية والعربية المُحكَمة، إضافة إلى إعداد وتقديم برنامج تلفزيوني بعنوان (خلي نتفلسف شوية) بهدف تبسيط الفلسفة للمشاهد العادي. عن قضايانا الراهنة كان هذا الحوار..

أين يكمن الخلل في العقلية العربي؟

الخلل في العقلية العربية يأتي على عدة مستويات ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية وتربوية تعليمية. أما الثقافية، فنجدها واضحة في طبيعة الخطاب الثقافي المتعالي والنخبوي، الذي يتخاطب أصحابه وكأنهم يعيشون في أبراج عاجية، ويلتقي معهم في هذا المفكرون والمصلحون العرب النهضويون والحداثيون، لأن السائد في كتاباتهم هو الخطاب المعياري، يجب ويجب أن لا، وهو موروث من خطاب الوعظ الديني الذي يتماهى مع الخطاب السياسي، الذي يمثل قمة الهرم. سيادة الفكر التأملي والمثالي الحالم الذي يتحرك من النظرية إلى الواقع مثل رؤى الفلاسفة اليوتوبيين، هو ما جعل كل خطاباتنا الثقافية خطابات لا تقترب من الواقع وتحاول فهمه من داخله، بقدر ما يعمل مفكروها على ما ينبغي أن يكون، لا ما هو كائن. يسود في حياتنا الاجتماعية والتربوية والتعليمية نظام الوصاية، ويهيمن على العقل ويُكلسه ليجعله رهين أو حبيس أطر فكرية جامدة أو «أسيجة دوغمائية» بتعبير محمد أركون. تداخل ما هو ديني مع ما هو اجتماعي مع ما هو ثقافي مع ما هو سياسي، وفرض خطاب الهيمنة للأنموذج السوي، بتعبير توماس كون أو «البراديايغم السائد» أي الأنموذج المحافظ، وهو الذي جعل نزعات المطابقة تسود في مجتمعاتنا على كل الأصعدة.

وأي سجن يجب أن تتحرر منه العقلية العربية؟

أشرت في جواب على سؤالك السابق لهيمنة العقلية الدوغمائية، التي شاركت في اتساع وجودها وانتشارها طبيعة الخطابات السائدة كما ذكرت، لذلك أجد أن أول سجن ينبغي أن نتخلص منه هو وهم الذات العربية في التفوق المتأترث، وكسر قيود العقلية التراثية التي جعلت من الماضي فاعلا في الحاضر، كما يقول فهمي جدعان في كتابه «الماضي في الحاضر» إن لم يكن يُسيره. أما الوهم الثاني فهو وهم الصنمية، أو وهم القداسة للفكرة، أو للفرد الذي أنتجها، والتحرر يكمن في محاكمتها وفق زمكانيتها أو تشكلها «التاريخاني» باصطلاح مستعار من عبدالله العروي. قد يتحرر العقل العربي من تداخل ما هو ثقافي وفكري أو فلسفي مع ما هو أيديولوجي، أو سياسي، عبر الخلاص من وهم النمذجة أو الانقياد لأنموذج إرشادي مأخوذ من الماضي (التراث) أو حتى من الحاضر (الحداثة وما بعدها) أي كسر نزوعنا للتبعية (والحذو وراء «الأنموذج» حذو النعل بالنعل) كما يُقال. لا يتحقق هذا الأمر من دون نقد الذات ونقد الآخر على حد سواء، بعد هضم الرؤى وإعادة إنتاجها برؤية تنتمي لعصرنا وحياتنا التي نعيش، لا حياة غيرنا الذي عاش قبلنا في الماضي، أو الآخر الذي أنتج حضارته المعاصرة لنا.

وما هو تأثير الأيديولوجيا والثوابت المعقدة؟

مفهوم الثوابت مفهوم غير واضح حتى بين مجتمع عربي وآخر، حتى في ما يخص العادات والتقاليد وفهم الشريعة الإسلامية، لذلك أجد أن المشكلة تكمن في من يدعون أنهم (حُرّاس الحقيقة) وربانيو سفينة النجاة من الأيديولوجيين والعقائديين الذين يفرضون شكل فهمهم لأيديولوجيا، أو عقيدة ما على أنه (سفينة النجاة) التي من يركبها فقد نجى، ومن تخلف عنها فقد هلك، لذلك أقول إن فتح الأفق أمام الفكر الفلسفي ودعم المؤسسات الثقافية والتعليمية التي تحمل لواء «تحرير العقل من سباته الدوغمائي» وفك الارتباط بين الدين والفلسفة، الأيديولوجيا والفلسفة، ودعم حرية التفكير هو الذي يحرر العقل من سطوة الأيديولوجيا.

لماذا كل مفكر يعيش في مجتمع ذي أغلبية إسلامية يظن أنه وجماعته مسؤولون عن الجماعات المخالفة لهم في الدين والملّة والمعتقد؟

في ظل هذه التحولات المتسارعة والثورات المتعدد في الأنفوميديا والعلوم جينوم والمستقبليات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وما نشرته من وعي جديد أحدث ثورات اجتماعية بلا قيادة، صار من اللازم على جماعات الإسلام السياسي أن يتخلصوا من نزعتهم الراديكالية في رفض التنوع والاختلاف. لم تعد مقولة لا حكم إلا لله وفق الفهم الإخواني، أو فهم دعاة نظرية التفويض الإلهي صالحة لحكم المجتمعات التي تعيش في «مجتمع مفتوح» بتعبير كارل بوبر، هذا المجتمع الذي تخلص من أسار نظريات التفسير الحتمي للتاريخ.

ماذا عن «العقلية العراقية» التي هي جزء من العقلية العربية؟

لا أظن أن العقلية العراقية تختلف كثيرا عن السائد المعروف عن العقلية العربية، فهي رغم موروثها التاريخي الراسخ في أعماق التاريخ، وإن كانت الحضارة الرافدينية هي الحضارة الأصيلة بتعبير الآثاري طه باقر، إلا أن العناصر الأصيلة تآكلت بحكم تعدد الاحتلالات وتغير المعتقدات، لذلك تُعد كتابات العلامة علي الوردي عن «شخصية الفرد العراقي» هي الأقرب لما هو عليه الآن، فهو شخص يعيش حالة «ازدواج الشخصية» الاجتماعية لا النفسية، بمعنى أنك قد تجد فيه أكثر من شخصية تكاد تصفه بأنه «تناشز اجتماعي» ولكن هذا لا يشمل الشخصية العراقية فقط، ولكنها صورة أجلى فيه، وقد تجدها عند باقي العرب، وقد تحدّث نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة عن «سي السيد» وهو الشخصية ذاتها، التي تحدث عنها علي الوردي من قبل في كتاباته الاجتماعية عن الفرد العراقي.

وكيف تحت عنوان «الإرهاب المقدس» يكمن تبرير العنف ضد خصوم هذا الطرف أو ذاك؟

في تحولات الحال العراقي بعد عام 2003، أي بعد سقوط النظام السابق والاحتلال الأمريكي للعراق، وحكم العراق، وفق مكوناته الإثنية والدينية والمذهبية، عرفنا بصورة جلية تشكيلات جماعات العنف المقدس، من الذين يحملون راية الله أكبر، ولكنهم يقتلون المسلمين وغير المسلمين من المخالفين لهم في المّلة، على أنهم يعيشون «الجاهلية» وقسموا لنا الجغرافية الكونية إلى «دار الكفر» و»دار الإيمان» وهددوا الكرة الأرضية لا العراق حسب، والحل للخلاص من هذه النزعات المتطرفة هو الاتفاق العالمي على أن أمثال هؤلاء، إنما هم لا يهددون بلدا بعينه، إنما يهددون العالم أجمع، ومواجهتهم مسؤولية تضامنية. فلا أحقية لأحد بقتل الآخر، إلا إن كانت هناك دولة تُعلن الحرب على دولة، فيكون من حق الدولة التي انتهكت سيادتها بالرد على هذا الانتهاك، فهنا يمكن أن نتحدث عن مفهوم «الحرب العادلة» لا ببعدها الديني، بل بوصفها دفاعا عن النفس وردا على اعتداء وحفاظا على الأرض والعرض.

وما أسباب إخفاق قيام مشروع نهضة عربية، وهل يمكننا اليوم إعادة المحاولة؟

لا أقول عنه إنه إخفاق، بل أقول إنه تراجع، لأننا ما زلنا نستمد من رؤى الأفغاني والطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي وفرح أنطون وشبلي شميل والقائمة تطول كثيرا من رؤاهم النافذة والناقدة، ولكن أقول معتمدا على رؤى الكواكبي، إن قبول مجتمعاتنا بالمستبد وتمجيده لينبري وعاظ السلاطين وكثير من المثقفين وقادة الجند للدفاع عنه والتنظير على أنه المُسدد والمؤيد والمُقتدر بالله والمنصور بالله وظل الله، هو ما جعلنا نرهن عقلنا بعقله وحياتنا بحياته، فأضعنا الشجرة في اكتنازنا للثمرة.

باعتبارك أستاذا جامعيا.. ماذا تنتج الجامعات العربية؟

ربما أستطيع التحدث عن اختصاصاتنا الإنسانية لا عن العلوم الطبيعية والتطبيقية التي قد تجد لها مجالا في الحياة العملية. مشكلة أغلب سياسات التعليم في الجامعات العربية، بل عند الحكومات وعند الأهالي أنهم لا يعرفون قيمة العلوم الإنسانية لأنها لا تدر لهم مردودا ماليا واضح الأثر بعد تخرج الطالب، وهذا من أسباب خراب مجتمعاتنا وانتشار نزعات العنف والإرهاب فيها، لأن العلوم الإنسانية هي التي تمنحنا القدرة على تذوق الجمال ومعرفة قيمته، فهناك متنبي واحد وهناك جواهري واحد وهناك محمود درويش واحد وهناك نجيب محفوظ واحد ولن يتكرر، ولكنك تستطيع أن تأتي بطبيب أو مهندس وتستجلبه من أي دولة أخرى .. العلوم الإنسانية وآدابها تصنع هوية المجتمعات الحضارية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي