
عبداللطيف الوراري
ترفد التجربة الأنثوية نسيج الشعر العربي المعاصر بعناصر وقيم نصية وجمالية جديدة، ليس على أساس الاختلاف الجنسي، بل على محك القيمة التي تتأتى من وظيفة تدبيرها في فضاء اللغة، وتضفي عليه هُوية أنثوية ملموسة تحتفي بالجسداني، وتنظر إلى العلاقات بينه وبين الأشياء من خلال زوايا مبتكرة وحميمية تثري لوحات العالم الشعري، وتبعث الهمهمات المطمورة في أعماق سحيقة من اللاوعي. ولم يعمل ذلك على كشف الممرات المعتمة والمكبوتة، أو القوى الكامنة داخل تلك الكتابة، بوصفها كتابة اختلاف، وتفجير قيمها في نسقٍ من العلامات يختص باستخدام الشاعرة للغة، بل يعمل ـ بالنتيجة- على تحرير جسدها من أساليب التصوير ذات المنزع السنتمنتالي المتمحل، وتحرير كلامها من الحبسة التي عانت منها وسط تمثيلات السنن الشعرية التي استقرتْ لقرون طويلة.
إن مثل هذه التجربة، كما سبق أن أوضحت في مناسبة سابقة، أخذت توجد في وعي اللغة الشعرية كتابة أُنثوية تنهل سماتها من هُوية الذات، فيما تتجلى وظيفتها في قدرتها على تمثيل تجاربها والتعبير عنها في ضوء شروط الأنوثة الذي يتحرك داخل تراكيب وصور وتوريات وأمشاج مُتخيلة، توحي باللين والهشاشة حينا، وبالجاذبية المُشعة بالرغبة والشغف والألم والذكرى، وبالتالي تعيد تثمين واكتشاف مجموع الكلمات التي تعبر النسيج الشعري وتٌحررها من عمود الفحولة.
وإذا كان عمر الكتابة الشعرية النسائية في المغرب بالكاد يتجاوز أربعة عقود، إلا أنّها تشهد تحوُّلا كمّيا ونوعيّا يرتبط بانفتاح المرأة على المجال الثقافي والحقوقي والفني، وازدياد وعيها بذاتها وحضورها واختلافيّتها، وطموحها لأن تُحرّر لغتها من تقاليد الكبت اللغوي والجمالي والقمع الاجتماعي، وتوصل صوتها الخاص للقُرّاء؛ كـ»أنّ الأنثى لا تولد امرأة بل تصير امرأة» على حد تعبير سيمون دو بوفوار، لاسيما إذا استحضرنا مختلف أشكال التمييز القانوني والاجتماعي والسياسي، التي تمارَسُ ضد المرأة.
ولهذا، لا نستطيع – في زعمي- أن نتحدث عن هذه الكتابة، دون أن نربطها بما يشهده المغرب من حركة نسائية ناشئة تعمل على مقاومة الهيمنة الذكورية في المجتمع، وذلك في أفق بناء مجتمع حداثي يقوم على المساواة، ويمكّن المرأة من أداء دورها المنوط بها في جميع المجالات؛ ودون أن نربطها بالمتغير الثقافي الأساسي الذي يتمثل في تيسير ولوجها إلى الفضاء المعلوماتي، بما يفيده من تجاوز لمعيقات التداول والانتشار والتحرُّر من أيّ سلطة رقابة.
ورغم تباين مستوى التجارب الشعرية النسائية، وتفاوت قيمتها فنّيا وكتابيّا، إلا أنها تمثل في حدّ ذاتها دليل عافية على التنوع والدينامية التي يعرفها الحقل الإبداعي المغربي بأسره.
نزوع فرداني
تجلس الشاعرة أمل الأخضر في الصف الأول خبرة وفنّا داخل «بانثيون» الشعر النسائي المغربي المعاصر. ترجع صداقتي الشعرية بها إلى نحو عشرين سنة؛ أي منذ أن كانت تنشر قصائدها في بعض الملاحق الثقافية، ثم التقيتُها في إحدى دورات المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث في شفشاون (2013) وقد اتضج أسلوبها في الكتابة وازداد صيتها بين قراء الشعر. ويكتشف من جالسها وقارَ «الدوقات» الذي تتزين به، كما لا يخطئ وميض عينيها الغائمتين كأنه يشي بحزن امرأة عادت للتوّ من عصر الرومانس.
تنتمي أمل الأخضر إلى جيل التسعينيات في الشعر المغربي؛ الجيل الذي كرس الانحياز إلى جماليات الكتابة وقيمه الذات فيها كضمير نصّي- تخييلي، متخفّفا من الهتاف الأيديولوجي الذي كان إلى عهد قريب صاحب سطوة. وداخل هذا الجيل نفسه، برز الصوت النسائي تحت تأثير الحالة الصوفية في اتساعها وتجريديتها، وأحيانا أخرى تحت تأثير الانهمام بالجسد بوصفه بؤرة اشتهاء وتوق؛ فكان ذلك بمثابة «مانيفست أنثوي» يساير النزوع الفرداني للذات، ويُحوّل مدلولاته إلى لسان حال يسمو بتجربة التَّوْق الصوفي إلى الاكتمال والفناء، بعد معاناته حالات الفقد والغياب، مثلما يحوّل ما توحي به إلى كوكبةٍ نجوم تتلألأ بأثر الجسد وإشراقاته وتشهّياته؛ وهو سيقطع مع الصوت الجمعي كما مثّلته على الأقل شاعرتان مرموقتان مثل ثريا السقاط ومليكة العاصمي، حيث ارتبطت التجربة الشعرية عند كل منهما بمشاغل فكرها السياسي والنضالي، وهو يجابه السلطة ويصرخ في وجه الواقع وخذلانه وقباحته.
جمعت أمل الأخضر نصوصها الأولى في الباكورة الشعرية «بقايا كلام» عام 1995، التي لا تخلو من دهشة البدايات وتردّدها، قبل أن يتبلور صوتها الشعري في ديوانها الثاني «أَشْبَهُ بي» 2012. في هذا الديوان تقدم عالما فنّيا شديد الحساسية من العالم الذي تكتشفه وتبني عليه، وهو يتوزع بين الانحياز للذات في همومها وتباريحها ومفرداتها الصغيرة والحميمية، والسعي لتحرير هذه الذات مما يقعد بها ويحجبها عن رؤية ذلك العالم مُطْلقا كما تحبه وترغب فيه، بلا تهافت واستعلاء. ولهذا، نطالع في الديوان نبرة تعبيرية هامسة وشبه صوفية، تتخللها لغة مقتصدة، وكثيفة، ومنقادة إلى تأسيس رؤية أنثوية خاصة بها للعالم، وشفافة عن روح منطلقة ومُضاءة بـ»غواية الأسئلة».
شعر لا يهادن
في ديوانها الجديد «يَـدٌ لا تُهادِن» (مؤسسة مقاربات، فاس 2021) نجد استمرارا لسيرة شاعرة حزينة، بيد أن نسق الحكمة؛ حكمة الحياة، وحكمة الغياب، وحكمة الخسارات، قد طبع نصوص الديوان وشذراته، فبدا صوتها أوضح للتعبير عن جوع الذات وغضبها، بل عن «شهوة إصلاح العالم» على حد تعبير شيللي. لكن ماذا بوسع امرأة هشة وحزينة لِتحمُّل هذه الشهوة؟
من عنوان الديوان وعتباته الأيقونية يمكن للقارئ أن يتوقع أصداء لمثل هذه الشهوة بما هي قرين المواجهة وحيازة حقّ الذات في الحياة؛ فالدالّ «يد» ذو فعل مادّي، والجملة النافية «لا تهادن» توحي بمعاني الرفض والاحتجاج على العالم الذي تعيشه وتختنق إزاء صوره وخرائبه. وفي هذا السياق، تصح عندي أن تكون القصيدة التدشينية «لست معنيّة بشيء» بيانا تحتشد فيه أوجه البلاغة الرافضة: جملة شعرية إيقاعية مندفعة ومسبوكة بأثر جامع، وهي تُوهِم بانسحاب الشاعرة من العالم وتخلّيها عن مغرياته ورضاها بأشياء مخدعها الشخصي القريب، غير أن نهايتها المفارقة تصدع بخلاف ذلك:
«لستُ معنيّة بشيء..
فقط تخنقني كل هذه الصور، كلما أغمضتُ عينيَّ، وهدَّني بعض التعب»
لا هدنة مع عالم يحتضر، يتهاوى ويبتلع كل شيء جميل. ولهذا تحاكم الذات المتلفظة ـ رمزيّا- مملكة الشعراء من البكّائين، والدراويش، وأسارى المجاز الأبيض، والمجروحين بآلام الذكرى والوطن، الذين أقاموا جبريّا في «حقول الألغام». هي ذات الأرق الطويل، التي نذرت نفسها لتغيير هذا العالم، وباتت تتطلع إليه بشكل «أكثر صحوا» وإمعانا في رتق الشهوة التي تصلحه، وتعيد إلى الروح بهجتها وفرحها، وإلى الوقت الخامل حضوره المتجدد في العالم:
«صباح الخير أيها العالم
سأقبض الوقت الهارب من قلنسوته
وأُحكم رباطه إلى عمود السرير قُبالتي
وأرتدي سُتْرتي على مهل
وأرشف عصير الخرّوب على مهل
وأكتب قصيدتي المشتهاة»
تعيد إلى «خشبة هاملت» حركة الفعل من أجل إصلاح الروح والعالم معا، ولو عبر مجاز اللغة التي تثور ضد سكونيتها، ولسان حالها: «هيلا.. هيلا.. هوب». تتذرع هذه اللغة برؤيا غرائبية – قيامية من أجل أن توقظ، وتستبصر، وتنذر بالطوفان قبل أن يغرق الجميع:
«رأيت فيما يرى النائم، طرقا مغمورة بالوحل، بُلْدانا تنزُّ ماء، ماء أَهْيَفَ، ماء مُخْضوضرا، ماء أَرْعَنَ، ماء ضاجّا، ماء مشقوقا، ماء أَعْمى، يَضْرب البلادَ والعبادَ والشجر»
وانطلاقا من هذا كله، تقيم الذات مفهوما خاصّا بها للشعر؛ مفهوما يتشابك مع مفردات العالم المادي والمرئي وهو يتحول في سيرورة مليئة بالانقطاعات والتوترات من كل لون؛ ومن ثمة، تجترح كتابة مادية تلتقط اليومي، وتريد أن تبعث الروح في أشيائه الصغيرة بتؤدة، وترج واجهاته الكبرى التي تغشى مشاهد الحياة ومغانمها المنثورة، دون ادعاء أو تحريض يسقط في شراك الالتزام المباشر، أو يعمى عن حيوية الكلمة الشعرية في مداها المنظور داخل كل الأزمنة. مثل هذه النزعة «الإرادوية» هي ما يعطي للكلمة شكل حضورها في الحياة وتمثيلها الأكثر قيمة:
«أريد ألا أخون فراشات الحياة المنتظرة داخل اليرقات منذُ أمدٍ بعيد.
أريد عناقَ الأرض مثل طين لزج، أريد أن تجري بي السُّيولُ،
وتأخذني لمجراها الجهاتُ، وتعبرني الطرق»
فما يبقى هو ذلك الوعد الذي يجعل من الذات، ومن غيريّتها التي تتشكل في حوارها مع آخرها باستمرار، واجبَ الواجبات في مفهوم الشعر اليوم. من ذات إلى ذات، من برعم إلى شجرة، نُصْغي إلى حياتنا المغدورة في زمن يقلّ فيه الشعر لصالح التقنية التي تُروّجها وسائط الميديا وأدعياؤها بالوكالة ويُعمّمها عالم سادر في ماديّته الشرهة، ومن عديم الجدوى أن يبحث الشعر عن دور جماهيري، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدور، ولا وهم التّمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تُعزّز الإجماع الكاذب. إن الذين يربطون الشعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنما يتحاملون على الشعر، ويُكرّسون فَهْم العامة له كشيء ساذج، نفعي وآنيّ. قُـوّة الشّعر في هشاشته التي لا تُزهر إلا في العتمة، وفي مواعيده اللامتوقعة التي تودع في الشقوق بستانا من الأمل، وتترك لتصدُّعات الرّوح أن تتكلم زمنها بفرح غير آبهة بقهقهات البرابرة. وقد يستغرق التغيير الذي ينشده الشعر أمدا طويلا، فهو ليس موظّفا في مصلحة المستعجلات، ولا تعنيه الإملاءات من خارج؛ إنه ابن داخله التي يتدفق بأنهار الفقدان، ووليد لحظته التي اختلسها من السفر اللامرئي وهو يعبر أشياءنا المتناثرة حولنا، ويبثُّ فيها حميّة الإنساني والجوهري من غير أن ننتبه عادة إلى ذلك.
وإذن، فليس بوسع أحد من الشعراء أن يدّعي بأنه سينقذ أو يغير العالم، فإنّ أقصى ما يطمح إليه الشعر هو أن يغير نظرتنا المتراخية للعالم، ويشقّ ممكناته الطافحة بالحب والجمال، بقدر ما يؤنسن العلاقات بيننا؛ نحن بني آدم الذين صرنا أكثر عداء لبعضنا بعضا:
«عليَّ أن أُجرِّبَ كُلَّ شيء..
أَتَفيّأُ الظلالَ البعيدة
أنعسُ في حقول الألغام
أمسحُ الأفق المُلبّد بدخان الحرير بيدٍ من حرير
في النهاية سأموتُ
لذلك عليَّ أن لا أَمَلَّ من نَخْرِ هذا الجسدِ المُعنَّى
بالكثير من الندوب.
عليَّ أيضا أن أشرح وجهة نظري في الحب، وفي الحرب، وفي الريح الماطرة…».
كاتب مغربي