«ماءان» لليبي عبد الحفيظ العابد: رواية الطقوس

2022-09-04

رياض خليف

ليست الرواية مجرد حكاية خيالية، تحمل بصمات الواقع اليومي ونماذجه حسب، بل هي حكاية مطرّزة بذاكرة المجتمع وعاداته وتقاليده، وبمختلف تفاصيل تراثه. فالتشكيل الروائي تتخلّله مادة أنثروبولوجية، تتسلّل إلى الرواية وتخترق عوالمها الخيالية وتلوّنها بهذه المسحة التي تكتسب علاقة حميمية بالقارئ المحلي، باعتبارها تحيله إلى عوالمه الذاتية، وتلتقط أشياء من ذاكرته، وبالقارئ الغريب الذي يجد في النص الروائي درسا حضاريا عن مجتمع الرواية. فكثيرا ما يتحوّل السرد الروائي إلى سرد طقوس المجتمع وتقاليده.

لعلّ هذا أبرز ما يتبادر إلى الأذهان عندما نفكّر في رواية الكاتب الليبي عبد الحفيظ العابد. فـ»ماءان» رواية اجتماعية تصوّر جانيا من حياة قرية ريفية بسيطة وتنغمس في يومياتها المختلفة، مستعرضة هواجس شخصياتها وأحلامهم ومغامراتهم ومزاحهم، مشاركة إياهم عددا من الإحداث مثل الزواج والموت، ومسايرة عدد من مواسمهم. لكن الطقوس تفرض ذاتها على قارئها. فيجد نفسه مكتشفا للكثير من عادات وتقاليد المجتمع الليبي، خصوصا المجتمع الريفي. فهاجس كتابة الطقوس يلوح في هذه الرواية، مفضيا إلى توسيع الدوائر الدلالية للرواية، ومتيحا تأمل التشكيل الأنثروبولوجي ودلالاته العميقة.

طقوس الماء والأولياء

تتعلق بالطقوس التي تنتشر في المجتمعات العربية، بما فيها من مقومات مثل الولي الصالح والقربان والبخور والدم، وهي طقوس ذات طابع صوفي نجد لها مظاهر مختلفة. ومنها ما يرتبط بالعمل الفلاحي. فالرواية تطالعنا بطقوس مختلفة يمارسها الفلاحون، من بينها طقوس الاستسقاء وطلب الماء من الله. وهي ترتبط بعادات سعي الإنسان العربي إلى مقاومة جفاف السماء، وأزمات المياه ولهذه الظاهرة تقاليد مختلفة في الثقافة العربية منها، صلاة الاستسقاء والتقرب إلى الأولياء الصالحين.

نرصد هذه الطقوس في هذه الرواية «فحول سيدي البهلول الرابض على الهضبة التي تفصل بين وازينا وسوناف، اجتمع عدد من شيوخ القرية يجرّون عجلين أسودين حول الولي. تعبق رائحة البخور في الأرجاء يتمّ التّحضير للحضرة في تلك الليلة، سيكون ثمّة مجذومون يبتلعون الجمر، إنها العادة كلّما تأخّر المطر. إذ مرّ أكثر من شهر من الخريف ولم تمطر بعد. لا بدّ من بعض دم مسفوح. لا بدّ من قتل السواد الماثل في العجلين. السواد سلطة مطلقة». ولعل هذه العادة تستدعي مقومات هذا الخطاب الطقوسي الصوفي ورموزه (الولي الصالح والقربان والبخور والدم). تبدو هذه التقاليد المقامة على هامش الخطاب الديني والصوفي منتشرة في المجتمع، وهو ما يفسر تلك الصورة السلطانية للفقيه الأزرق، الآمر الناهي في القرية، فهو يتقدم المناسبات ويتوجه بالنصائح ويكتب الأحجبة ويحظى بالطاعة والاستشارة في أبسط المسائل ويكتسب نوعا من القداسة لدى الناس. فصباح عيد الأضحى على سبيل المثال «لا ذبح حتى يذبح الفقيه الأزرق إمام القرية. كل الذبائح مؤجلة حتى يحز سكينه عنق أضحيته، إيذانا بانطلاق عرس الدم». ومن مظاهر غلبة الخطاب الصوفي الديني القائم على الكرامات على التفكير الاجتماعي، الاحتفالات الأسبوعية بالأولياء، وما يرافقها من ولائم مختلفة وما تقوم عليه من ثقافة أكل وشبع وصدقة وشطحات: «بعد انقضاء العشاء احتشد عدد كبير من الناس مشكّلين دائرة، وفي الداخل هناك دفوف تمرّر على جمر الكانون استعدادا لبدء الحضرة، وما إن ارتفعت الأصوات الله حيي، الله حيي، حتى هام المجذوبون بعضهم يطعن خاصرته بالسكين وآخرون يمرّرون أسياخا ساخنة عبر أعناقهم، بعضهم يبتلع الجمر، وبين لحظة وأخرى تنهض امرأة من الحاضرات مصروعة تخبط قدميها على إيقاع الدفوف».

تكشف هذه النماذج عن حضور واسع للمعتقدات الصوفية في مجتمع يؤمن بالكرامات، يستسقي ويداوي ويحمي نفسه من الشرور عبرها، ويلتفت القارئ إلى أهمية الحضور الأنثروبولوجي في جانب آخر وهو حدث الزواج.

طقوس الزواج

تقدم الرواية فكرة مهمة عن تقاليد الزواج في ليبيا، وما فيه من عادات ومعتقدات. ولعلّ عرس المبروك على محجوبة يشكّل محملا يضم هذه المادة. فهو النموذج الذي تتسلل إليه المعطيات الأنثروبولوجية وتتضح معه مشاهد ظاهرة اجتماعية متكرّرة. فالروائي يقدم فكرة عن مظاهر الاحتفال ومناخاته وتقاليده، مستعرضا جملة من النقاط ومن أبرزها، تقليد موكب العريس الذي يطلق عليه السلطان ومجموعة أصدقائه أو حاشيته التي تتشكل للاحتفال معه عبر ألعاب شعبية مختلفة.

«حاشية السلطان إنهم العراسة أو حاشية السلطان الذين ينفذون أحكامه بحزم. سيكون المبروك مبجلا طوال أسبوع أو أكثر. سيكون باستطاعته أن يعاقب كل من يناديه باسمه. لا أحد يسبقه إلى طعام أو شراب. ولا أحد يغادر مجلسه إلا بإذنه».

ومن المواضيع التي يخوض فيها الكاتب في هذا المجال ليلة الدخلة، وحدث الافتضاض، تأكيدا للعذرية، وما يثيره من تقاليد وأحاديث ويقودنا إلى بعض مظاهر السحر التي تحصل بالمناسبة/ صدا للعريس أو تسهيلا له.

وقد أقام الروائي حديثه عن هذا الأمر عن طريق خدعة، فالمبروك الذي ظهر بطلا أسطوريا لسرعة قيامه بهذه المهمة، ينكشف في نهاية المطاف، ويعرف القارئ أنه لم يستطع القيام بمهامه نتيجة حجاب الزوجة محجوبة، والاسم هنا اشتقه الكاتب من هذه الوضعية.

ويعرف القارئ أيضا أن محجوبة التي رقص القوم على شرفها تضبط بصدد خيانة المبروك. ولعل الكاتب يرمي بهذا إلى كشف زيف مفاهيم الشرف وغيرها. فنحن أمام مجتمع يزيف الحقائق ويدعي القيم. هذا المدخل الأنثروبولوجي يمكن تعميقه، فالروائي يلتقط الكثير من مظاهر نمط عيش الأهالي وطقوسهم، متخذا بذلك مواقف نقدية كثيرة. فالرواية وثيقة شاهدة على مكامن المجتمع وطقوسه. لكن الروائي لا يكتب هذه الطقوس كتابة تكريس وتقديس، بل يكتبها ساخرا من مواقف كثيرة ومقوضا للكثير منها، فالرواية تتعامل مع الظواهر الأنثروبولوجية ممارسة عليها الكثير من النقد.

كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي