
محمد عبد الرحيم
مكان مُهمَل تناسته الدولة، ومخاليق يخترعون حياة ويعيشون على التحايل و(الفهلوة)، وما بين ماضٍ مشوّه ومستقبل مأساوي، أو مجهول في أحسن الأحوال، يواصل المواطن المصري مسيرته مُجبراً، داعياً الله أن تنتهي في أقرب وقت، دون حتى انتظار جنة موعودة. يختار الروائي المصري أشرف العشماوي في روايته «الجمعية السرية للمواطنين» أن يكتب سيرة أخرى للقاهرة، تبدأ من منتصف السبعينيات وتنتهي قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، بعيداً عن التاريخ الرسمي والتقارير والصحف ووسائل الإعلام المملوكة للنظام الحاكم، ليصبح هذا النظام هو عدو هؤلاء الأوحد وسبب كل مصائبهم.. ولم يزل.
عالم عزبة الوالدة
في منطقة نائية في حلوان ـ جنوب القاهرة ـ تقبع (عزبة الوالدة)، التي أقيمت كمنتزه لوالدة الخديوي إسماعيل. هذه المنطقة التي كانت قصراً كبيراً تحيطه الأشجار، أصبح مكاناً للعشوائيات وأهلها الذين يُشبهونه، سلوكيات ومهن غريبة، بداية من تاجر مخدرات وصولاً إلى فنان تشكيلي موهوب يعمل في تزوير اللوحات العالمية، ثم النقود بعدها. عالم العزبة هذا يوجد مثله وأبشع في الكثير من المناطق المصرية، فهي نموذج من ضمن آلاف. ثم تتواتر الشخصيات.. جندي فقد ساقه في حرب أكتوبر/تشرين الأول، أصبح منادياً للسيارات ومرشداً للشرطة، ثم موزعا صغيرا للمخدرات واستبدال العُملة المزيفة بأخرى حقيقية. موظف في البلدية يقوم بتسميم الكلاب الضالة ويصبح تاجر لحوم كلاب. مدرس موسيقى وعازف ترومبيت فاشل، يصبح عاملا في الصرف الصحي. ساعي بريد يصبح بالحيلة صحافياً في أعرق صُحف مصر «الأهرام». عامل نظافة يصبح شاهد زور محترفا، بل ويعلم الأجيال الصاعدة من شاهدي الزور. مُمَرض يصبح طبيباً. كومبارس سينما يُستأجر ليؤدي دور القريب الأهم في العائلة، نظراً لهيبته ومظهره «اللي يشرّف». فارس مراهنات (جوكي) يتحول بعد إصابته إلى لص يتسلق المواسير. عرضحالجي أمام محكمة، يصبح من أشهر محاميي القاهرة. وفي الأخير.. فنان تشكيلي آخر عديم الموهبة ينتحل لوحات الفنان رفيق العزبة، يضع عليها اسمه، فيلمع نجمه ويُرشح لمنصب وزير الثقافة، بعدما ظل سنوات عضوا في مجلس الشعب عن أهالي العزبة، وقبلها بالطبع أحد الأبناء المخلصين للحزب الحاكم وقتها (الحزب الوطني).
من زهرة الخشخاش إلى جمعية المواطنين
تبدأ الرواية بين الصديقين الفنانين (معتوق) و(غريب) الأول موهوب والآخر يعيش على ما يقوم برسمه من لوحات. يوحي له بتقليد لوحة فان غوخ الشهيرة «زهرة الخشخاش» وسرقة اللوحة الأصلية من المتحف واستبدالها. وهي حادثة حقيقية وقعت بالفعل، حتى أن الكثيرين يقولون إن الموجودة الآن هي نسخة مقلدة. وبالفعل تتم السرقة، ويأخذ غريب اللوحة ويختفي. ليصبح فنانا شهيرا بفضل لوحات فنان معروف، يضع اسمه عليها، وبعد بيعه لوحة الخشخاش الأصلية يفتتح غاليري في الزمالك ـ موطن غاليريهات الفن في مصر. أما معتوق فيذهب للنيابة ويعترف بأن اللوحة مزورة ـ فلم يعطه غريب شيئاً من ثمنها ـ وكان الجزاء، أن يقضي عشر سنوات في مصحة للأمراض العقلية، ليخرج وقد خسر حبيبته التي تزوجت، وابنته الوحيدة، التي انتسبت لخالها في أوراقها الرسمية، حتى تنتفي عنها سُبّة الانتماء لأب مزوّر ومجنون. ويجد عدّوه (غريب) قد أصبح عضواً في مجلس الشعب عن (عزبة الوالدة)، بل مرشحا قويا لتولي وزارة الثقافة.
في منطقة نائية في حلوان ـ جنوب القاهرة ـ تقبع (عزبة الوالدة)، التي أقيمت كمنتزه لوالدة الخديوي إسماعيل. هذه المنطقة التي كانت قصراً كبيراً تحيطه الأشجار، أصبح مكاناً للعشوائيات وأهلها الذين يُشبهونه، سلوكيات ومهن غريبة، بداية من تاجر مخدرات وصولاً إلى فنان تشكيلي موهوب يعمل في تزوير اللوحات العالمية، ثم النقود بعدها.
هنا لم يجد معتوق سوى رسم لوحة بدأت فكرتها في المصح النفسي، لأهالي العزبة. وفق ملامح تكشف طبيعتهم الطيبة وما يحاولون أن يكونونه بالفعل، بعيداً عن ظروف اجتماعية واقتصادية، حولتهم من بشر إلى مخلوقات تتشارك الحيوانات صعوبة الحياة. هذه اللوحة هي سبب (الجمعية السريّة للمواطنين) التي تتكفل بأهل الحي، بأن يقوم معتوق بتزوير النقود ـ فئات العشرين جنيها أو أقل حتى يصعب كشفها ـ واستبدالها من خلال التعاملات في شراء وبيع المخدرات بعملات حقيقية.. فطالما الدولة تطبع النقود، فنحن لسنا أقل من الدولة. وهكذا تتحسن الأحوال وتنأى العزبة عن الدولة، وتتخلص من مشكلاتها، بل يتمسح بها رجال الدولة وينسبون هذا الإنجاز إليهم، وعلى رأسهم (غريب) حتى في لحظات الانتصار هذه يسرق غريب كل شيء، لكن بما أن الأمر بدأ يخرج عن سيطرة أجهزة الدولة، أو ما ترسمه للمخاليق، فمعتوق ورفاقه يتم حصارهم، وفقاً لفكرة (علبة الكبريت) التي كان ينتهجها نظام مبارك، أي.. دعهم يعيشون على هواهم، وهم داخل علبة الكبريت، ولكن عند أي خروج عما هو مرسوم، يجب حرقهم تماماً.
التاريخي والواقعي والخيالي
يؤسس الكاتب لمكان الرواية من خلال شخصية مُدرسة التاريخ (راوية) حبيبة (معتوق) بالحديث عن عهد الخديوي إسماعيل، وبناء المكان، وتخلصه من (إسماعيل المفتش) في حادث قتل مُدبّر، بما أنها تقول التاريخ الحقيقي ولا تقتصر على التاريخ الرسمي المُدوّن بالكتب المدرسية، وهي تنويعة أخرى على الخيانات بين الأصدقاء ـ إسماعيل المفتش كان أخ الخديوي إسماعيل في الرضاع ـ ولكن.. لم يتم تفعيل هذه الحكايات التاريخية جيداً خلال السرد الروائي، فقط شذرات استجدت المكان، حتى يمكن إضفاء ثقل ما للحكاية، كلعنة أصابت المكان منذ نشأته.
ومن التاريخ إلى الوقائع، فالفكرة وإن كانت خيالية ـ تكوين جمعية بين المواطنين تقوم بالإنفاق على أهل المكان ـ إلا أن الأمر لم يتورط في السقوط في فخ الفانتازيا، وهو ما يُحسب للكاتب، فهو لم يسر خلف الموضة، بل جعل كل شطح خيالي يستعيد موقعه ويتسق تماماً مع الوقائع وما يحدث على الأرض. ففكرة (الجمعية) تعرفها كل الأسر المصرية، ولا غرابة ـ حتى لو الفعل غريب ـ في أن يتم تعميمها، أو أن تتخذ موقعاً أعلى، بأن تشمل منطقة سكنية بالكامل، وحتى ـ كرد فعل على النظام الحاكم ـ أن تتم من خلال نقود مزيفة.
السرد الروائي والمشيئة الإلهية
انتهج الكاتب أسلوب الراوي العليم، وإن كان بطلها الفنان التشكيلي (معتوق الرفاعي)، إلا أن الكاتب حاول صياغة موضوعه من خلال المجموع ـ معتوق ورفاقه ـ ولكن هناك مناطق كثير في السرد خضعت لتعليق الراوي ولغته ووجهة نظره، فأثقلت الموضوع، وكأنه يستلزم إضفاء عبارات حكيمة وبليغة، يمكن الاستشهاد بها عند التعرّض للرواية، وهي سمة غالبة في هذا الشكل من الروايات، خاصة أن الراوي تصدّر المشهد كراوٍ عليم، وقد غابت الحدود بين كونه راوياً من الخارج أو من داخل الأحداث، فيصبح التعليق على الحدث هنا ـ بخلاف أنه يقطع العملية السردية وتدفقها ـ مُثقلاً بفكرة السيطرة ووجهة النظر المفروضة.
ونأتي للمشكلة الكبرى في الرواية، ألا وهي نهايتها، فـ(غريب) الفنان المزيف وعضو مجلس الشعب والمرشح لوزارة الثقافة، حاول التخلص من الجميع، بما في ذلك المكان (عزبة الوالدة باشا)، إلا أن (غريب) يعرف أنه مُصاب بمرض لا شفاء منه، فيقوم بزيارة أولياء الله الصالحين، وترك مَن يسرقه يسرقه، حتى يخرج من المقام وقد تنازل عن كل شيء، وإن جعله الكاتب ينتهي هكذا.. مجذوباً ينتظر قدره لهان الأمر قليلاً، ولكن في اللحظة التي يواجه فيها أهل العزبة الشرطة وآلات الهدم، وحول أجساد أحدهم متفجرات ـ حقيقية أو وهمية لا نعرف ـ نسمع مع الجميع صوت مُقرئ الجامع القريب، حيث يُقام سرادق عزاء (غريب)! ومن الطبيعي أن يحدث هذا في الحياة، ولكن للكتابة والرواية قوانين أخرى، فبداية من مرض الرجل ثم موته من خلال حل إلهي قدري، هو أمر يهدم كل شيء.