
خالد بريش
النشر عالم خاص، لا يعرف عنه القراء والمثقفون أشياء كثيرة. ولأول مرة في العالم العربي، يطل علينا أحد أصحاب دور النشر المعروفة، ويقدم للقراء، ولكل المهتمين بأمور النشر والكتاب والثقافة، كتابا يتناول فيه تجربته الشخصية، وكثيرا مما يدور وراء ستارة المسرح، أو بالأحرى ما يدور في عالم النشر، الذي هو في أساسه صورة مصغرة عن مجتمعاتنا العربية بكل تناقضاتها وأمراضها. إنه عالم خاص يُعْتبر فيه الناشر اللاعب الأساس، والمستأمن على إيصال ما تتضمنه سطور المبدعين إلى القراء بأفضل صورة، وأيضا التاجر الباحث عن الربح أولا وأخيرا.
عالم يُعاني المُنْتمون إليه كبقية العوالم المهنية الأخرى من «الأنا» بمفهومها الإنساني والنفسي، وكل ما يستتبع ذلك من غيرة وحسد وحب للظهور وشللية وتخريب للطبخات دفاعا عن المصالح الضيقة.
يقوم الناشر المعروف ناصر جروس صاحب دار «جروس برس» بتعرية هذا العالم على الملأ، من خلال كتاب أصدره مؤخرا بعنوان «حكايتي مع الكتاب» الذي هو أشبه ما يكون بعملية تداعٍ حر، وحديث حميمي، تناول فيه جوانب من حياته الأسرية الخاصة، وسيرته الشخصية من الولادة حتى الجامعة، وصولا إلى مرحلة العمل. إنها حكاية شاب كان يملك كل المؤهلات العلمية والإنسانية ليكون محاميا ناجحا، فإذا به ينحرف عن المسار الذي رسمه لنفسه، ويحمله القدر إلى مكان آخر، إلى عالم الكتب والورق والطباعة والنشر.. لتبدأ معه قصة دار نشر، أصبحت بفضل جهده الدؤوب وسهره، واحدة من كُبْريات دور النشر والتوزيع في الوطن العربي، وفي مدة زمنية قصيرة.
احتوى الكتاب على كثير من البوح الشخصي، وأحيانا لوم للذات وحسابها حسابا عسيرا، شأنه في ذلك شأن كل المثاليين الحالمين بالذهاب بعيدا، فصادف خلال مسيرته نجاحات وإخفاقات، إنها الحياة التي يقابل كل صعود فيها هبوط.. وحوى كذلك شهادة حول كل ما دار ويدور من حوله في عالم النشر والكتاب والثقافة، من وجهة نظر مثقف مسيحي، عاش حياته في مدينة مسلمة متدينة، ذات هوية عُروبيَّة تعتز بها، وبانتمائها الوطني البعيد عن الطائفية البغيضة. شهادة مثقف لم ينخرط في الانتماءات والاصطفافات السياسية والطائفية، ولم تتلوث يداه بالدماء والقتل على الهوية، ولم تُصِبْ فكره لوثة العنصرية!
إنه حكاية دار نشر وقف وراءها إنسان طموح عنيد، حمل هموم الثقافة والكتاب ونشره، وسار على درب الجُلجُلة، لا يعبأ بالأشواك التي تصبح لها لذتها عند كل مِفْصَل من مفاصل النجاح. كانت البدايات مكتبا لتوزيع الصحف والمجلات على أنواعها، في فترة الحرب الأهلية من سبعينيات القرن الماضي، فاعتبره كل حملة السلاح والمُؤَدْلجين المُسَيَّسين عدوا لهم، لأنهم يختلفون في ما بينهم حول كل شيء.. وفي كل شيء… لكنهم يتفقون على حب الدولار، وبغض الثقافة والعلم والمعرفة، ونشر الكلمة الصادقة ومن يقف خلفها… لأن الكلمة وما تحمله من فكر وخلفية تثقيفية تنويرية تخيفهم. ولهذا هددوا والده يوما لأنه وزع صحفا تخالف آراءهم، واعتقله السوريون بتهم مُلفقة كنوع من الابتزاز وعِبرة للآخرين. فتوزيع الصحف، ونشر الكتاب الحامل للعلم والمعرفة والثقافة دون إقصاء رسالة تستحق كل التضحيات، طالما أنها من أجل الكلمة الحرة الصادقة، التي تقف على رجليها، في الوقت الذي يركع فيه حملة البنادق المُرَدِّدين لشعارات ثورية لا يفقهون معانيها، بل يحتقرونها بتصرفاتهم مع أرباب الكلمة والكتاب.
لقد كان هذا الكتاب ضروريا للتعرف على قضايا الكتاب ونشره، ولأنه يؤرخ في الوقت نفسه لمسيرة الثقافة بمفهومها الإنساني، وللمثقفين المبدعين في مدينة طرابلس والشمال اللبناني، الذين نسيهم الإعلام ودولتهم، وحتى الشبكات العَنْكبُوتية والمواقع الإلكترونية. ولأنه يعرفنا أيضا بالدور الحضاري لدار «جروس برس» التي كانت مشروعا ثقافيا متكاملا، فعالا في حركة الثقافة على كل مستوياتها في مناطق شمال لبنان، حيث أقامت كثيرا من الندوات واللقاءات الثقافية، وكونت علاقات مع مكتبات المدارس، وأقامت فيها معارض للكتاب. كذلك ساهمت بفعالية في إقامة تظاهرات ثقافية أخرى مختلفة كيوم اليتيم، وتوزيع أجهزة حواسيب على المدارس الرسمية.
يتناول ناصر جروس في كتابه أيضا دور الكتاب ومعجزة تحويله في فترات القتل المجاني على الهوية، إلى ما يشبه شمعة في ظلامات وطن يحترق بأيدي أبنائه الذين يدّعون محبته. ويخبرنا كيف شق الكتاب طريقه في بيئة لا تنظر إليه بعين الرضا، وتعاني من الفقر والإهمال المتعمد على كل المستويات، فقاوم جروس كل ذلك، وعرض الكتاب العربي والأجنبي بأسلوب مختلف، وأطر عملية جديدة من خلال نسج علاقات وطيدة مع الأساتذة والباحثين والطلاب على مختلف مستوياتهم، وبالأخص طلاب المدارس، وإقامة المعارض المتتالية دون كلل أو ملل. لقد كان دوره في المرحلة الأولى، حمل الخبز الطازج إلى الجياع، وجعل رائحته تفوح منه، ليشتد الجوع لدى الجائع، فيقبل عليه بنهم، ويغدو بالتالي من ضمن مأكولات مائدته..
ويتطرق الكتاب إلى موضوع مهم، يتلخص في بعض أسباب تدهور الثقافة في بلادنا، بسبب تدخل السياسة في طبخة الثقافة، ما يحرق الطبخة وأصابع الطباخين معا… والسبب الأهم عدم وجود ميزانيات من أجل دعم الثقافة غير المُسَيَّسَة، والتي تُقدم للإنسانية والأوطان خدمات لا حدود لها، موجها أصابع الاتهام إلى المسؤولين عن الثقافة في العالم العربي بقوله «غريب أمر عالمنا اللبناني والعربي، لا أهمية لديه لدَوْرِ الثقافة في إبراز هويتنا والمحافظة عليها. تُنْفَق الأموال على مشاريع لا فائدة منها، وتُهْدَر بلا حساب، وتُدْفع المَصاريف بلا جدوى. وعندما يتعلق الأمر بأمور ثقافية أو حضارية تجُفُّ الصناديق ويبدأ التسوُّل».. إنه كتاب يضع المسؤولين وزملاءه الناشرين وبعض المثقفين في الزاوية، ويحاكمهم دون أن يعد لِلعَشرة، كاسِرا كل الحواجز والتابوهات.. مقدما بعضا مما يدور في كواليس عالم النشر، لعل ذلك يخفف من سهامهم التي يُصَوِّبونها باستمرار نحو الناشرين، واتهامهم بالتقصير بحقهم، وبحق إبداعاتهم. إذ قلما وجدنا منهم من يمدح دار نشر تعاون معها إلا الكبار منهم، الذين يتم التعامل معهم بأساليب مختلفة، حتى إن كان نتاجهم وإبداعهم ليس في المستوى المطلوب.
كتاب يحكي قصة ناشر حمل هُموم تطور الكتاب العربي وتوزيعه، فكان الجُنْدي المجهول في وضع أسس لعلاقات دولية في عالم نشر الكتاب العربي على أوسع المستويات، ما أخرجه من محيطه الضيق، فعَبَرَ نحو العالمية بفضل العلاقات التي نسجها مع الناشرين الغربيين، ومشاركته في المعارض الدولية، فكانت بدايات وضع الأرجل في عالم جديد، كان الكتاب العربي وناشروه محرومين منه. ومن ثم دعوة الناشرين الغربيين للمشاركة في معارض الكتاب العربية، ما سمح لهم بالتعرف على خصائص الشرق الثقافية، فأدى ذلك إلى تبادل المعلومات والخبرات حول مهنة الكتاب والنشر وظروفه، وساهم بالتالي في تقديم الكتاب العربي بأفضل حُلله.
كاتب لبناني