في الرواية الجديدة: أحمد المديني يبحث عن أنماط جديدة في السرد

2022-08-18

إبراهيم خليل

الرواية الجديدة وصفٌ شاع في النصف الثاني من القرن العشرين. ودرج ذكره في كتابات الدارسين والباحثين العرب، دون أن يتثبتوا من صحة دلالات هذا التعبير، وانسحابه على ما يتناولونه من روايات عربية. فجاء استخدامه لدى الكثيرين منهم استخداما عشوائيا، فتارة هو الرواية غير القديمة، وتارة غير التقليدية، وطورا هو الواقعية الجديدة، وطورا الرواية النفسية، أو رواية الأصوات المتعددة، وطورا آخر هو الرواية التجريبية التي يتوخى فيها الكاتب البحث عن أنماط جديدة في السرد، لذا نجد الروائي الناقد أحمد المديني في كتابه الجديد «كي نفهم الرواية الجديدة» (منشورات ملتقى الطرق ـ الدار البيضاء 2021) يشير إلى ما طغى على هذا الوصف من عشوائية تبلغ درجة الاعتساف. وهو في هذا الكتاب، اعتمادا على قراءته الذاتية لأعمال آلان روب غرييه ومنها «المماحي» و»المتلصِّص» (أو البصاص) والغيرة، وروايات أخرى لناتالي ساروت، ومارغريت دوراس، سيميط اللثام عما علق بهذا المصطلح من الأوهام، وتبديد ما اعتراه من اللبس والخلط وسوء التأويل، لاسيما من لدُن الكتاب العرب، الروائيون منهم، والدارسون والنَقَدَة. فهو يزيل هذا اللَّبْس، إذن، في كتابه هذا، وقد جعله في قسمين اثنين، أولهما قراءة ذاتية ودراسات نقدية لبعض روايات آلان روب غرييه. والثاني قراءة في ما كتبه غرييه، ونشره تحت عنوان «نحو رواية جديدة» ترجمه مصطفى إبراهيم مصطفى، وقدم لطبعته عن دار المعارف في مصر لويس عوض 1956. ففي هذا الكتاب ينفي غرييه أن يكون رأس مدرسة جديدة في الرواية، وينفي أيضا أن تكون لديه النية لشرح نظريته في الرواية، مشيرا إلى من سبقوه ممن تركوا بصماتهم الثابتة والواضحة، على الرواية، وهذا لا يقتصر على فلوبير الذي كان مجددا في «مدام بوفاريه» 1860 ولا بروست الذي جدد هو الآخر في «البحث عن الزمن الضائع» 1910 لكنه أيضا يشير إلى ما تركه كافكا من ملامح جديدة، لاسيما لدى بطله الذي لا يشبه في حال من الأحوال أبطال بلزاك مثلا أو ستاندال. فالمديني يلح في قراءته لأعمال غرييه على ما فيها من تحلل شبه كلي من طرائق السرد التقليدي المحافظ، فإذا كان السابقون يحرصون على شعرية العبارة، وجمالية الأسلوب، التي تتموج في مستويات شتى، فإن غرييه ذو طريقة مغايرة في السرد تتصف بالصرامة التي ترى الرواية، وتنظر إليها، من منظور شبه علمي، لا تؤدي فيه العبارة إلا ما عليها تأديتُهُ حسب.

ووجد المديني نفسه في هذا المدخل لقراءة غرييه مضطرا للحديث عن الرواية بصفة عامة، الغربية أولا، فالعربية ثانيا، مشيدا بالروائي الأول نجيب محفوظ، ودوره في تصحيح مسيرة الرواية.

وهذه التوطئة، إذا جاز التعبير، تريد الوصول بالقارئ لاستخلاص ما يود المديني قوله، وهو أن آلان روب غرييه لم يأت من عدم، أو من فراغ، فهو سليل شجرة أنساب متجذِّرة، متينة الجذوع، باسقة الأغصان والأفنان، وارفة الأفياء والظلال. إلى هذا يضيف ما يمكن أن يعد لمحة ضرورية عن الأدب الفرنسي بين الحربين العالميتين. وموقع أندريه مالرو صاحب رواية «الشرط الإنساني» La condition human من هذا التيار. وموقع أندريه جيد صاحب الرواية المشهورة «مزيفو النقود» 1925. وفي هذا التدرّج السلس لا يفوته أن يذكر بمورياك، وسارتر، وألبير كامو، من أجل أن يدلف بنا إلى عالم غرييه الغريب والمثير والخصْب.

وفي هذا المقام يقدم لنا شخصيته في سيرة مختصرة، لا يعوزها عَبَقُ الذكريات، فهذا الكاتب، الذي عرف بصفته صاحب حركة روائية جديدة (1922- 2008) كاتبٌ من الطبقة الوسطى، لكنه بكتابة الرواية، والسيناريو، استطاع أن يغير موقعه الطبقي، فابتاع في عام 1963 قصرا لعائلته من مخلفات القرن السابع عشر.

وفي هذا الأسلوب التسلسلي يستعرض المديني عدداً من الأعمال التي كتبها غرييه، بادئا بالأولى التي رفضها المدير الأدبي لمنشورات مينوي. والثانية «المماحي» Les gommes التي صدرت في عام 1952 لتلاقي رواجاً، وحفاوة نقدية، حتى وُصفتْ «بالعمل الشامخ، والكتاب العظيم» وتناولها مثلما يذكر المؤلف لاحقا رولان بارت (1915- 1980) في دراسة تأويلية بعنوان «الأدب الشيئي» وفي أخرى عنوانها «الأدب حرفيا». والرواية الثالثة كانت بعنوان المتلصِّص la voyeur (أو البصاص) 1955 وقد ساعدت المعارك الأدبية التي اشتعلت حول هذه الرواية على السمو بمكانة غرييه بين الكتاب. وزاده تألقا فوزُها بجائزة النقاد بتزكية 9 نقاد من أربعة عشر ناقدا. تلي هذه الرواية رواية أخرى عنوانها «الغيرة» La Jalousie. وعلى الرغم من أنه يقتفي فيها أثر رواية «المتلصِّص» إلا أن أبسط وصف لإنجازه فيها أنه بلغ الذروة في الوصف العياني، الدقيق، إلى حدّ الهوَس».

وفي سنوات معدودات غدا الأسلوبُ المبتكر الذي اختلفت فيه رواياته، وتميزت عن غيرها، أسلوبا يُحتذى لدى روائيين آخرين منهم: نتالي ساروت، وكلود سايمون، وميشيل بوتور، ومارغريت دوراس. وبدأ يتزايد اللغط حول ظهور تيار، أو مدرسة جديدة، في الرواية. قوام هذه المدرسة تخطي قوالب السرد والصيغ والأساليب المتداولة في ذلك الزمن. والتخلي عن الفكرة السائدة، وهي أن السرد ينبغي له أن يقوم على محاكاة الواقع. وما لم يكنْ متوقعا، هو أن يتنافس الروائيون في ادعاء الريادة. فنتالي ساروت في «زمن الشك» تزعمُ ريادتها هذا النهج المتجدد. ولعل هذا أحد الدوافع التي دفعت بغرييه لكتابة سلسلة من المقالات عن الرواية، جمعت لاحقا، ونشرت في الكتاب الموسوم بـ»نحو رواية جديدة».

في الفصل الثالث من «كي نفهم الرواية الجديدة» يقدم لنا المؤلف عرضا لقراءات نقدية لبعض روايات غرييه. الأولى لرولان بارت. وهي عن «المماحي» التي استحوذت على إعجابه، بما فيها من حدَثٍ سردي منقلب في مدى 24 ساعة، متجاوزا الطبيعة الأساسية للسرد الكلاسيكي، أيْ خطيَّته، وتعاقبه الحتمي. فهو ـ أي غرييه – يسلط في هذه الرواية عينه على الشيء الذي تُراد رؤيته، ومع ذلك لا تؤدي هذه الموضوعيّة في السرد لمحو الذات من النص تمام المحو، أما القراءة الثانية فهي للأمريكي بروس موريسيت، الذي سبق ذكره، فقد شدته روايات غرييه، ولاسيما «المماحي» و»المتلصص» و»الغيرة» بما فيها من الجوانب السيكولوجية الواعية، وغير الواعية، التي يجري استبطانها عبر شخصية واحدة تنقل بها المؤلف تباعا في رواياته الثلاث. وهذا التنقل يؤدي لاصطراع زمن الرواية الخاصّ مع الزمن الإنساني. علاوة على هذا ثمة مسارٌ في « المماحي « يذكرنا بعقدة أوديب. وإشارات أسطورية أخرى تنم عن ثقافة عميقة جدا. زيادة على هذا وذاك، يُضفي الكاتب في رواياته الثلاث الطابع الإنساني على كل شيء. وهذا ما يسميه الناقد الأمريكي أنْسَنَة الأشياء.

ويقفُ بنا المديني في فصل تال إزاء كتاب غرييه المذكور عن الرواية الجديدة، لأن قراءة هذا الكتاب تبدّد ما علق بمصطلح الرواية الجديدة من إشكالات تتكرر في الكثير الجم من الكتابات النقدية. فهذه الرواية شقت طريقا جديدا في الكتابة، بما اقترحته وأحدثته، من تغيير جذري في اللغة. ففيما مضى كانت اللغة تنطلق في نسج الوقائع المحكية من الداخل، وتحاول أن تصف الأشياء. أما في هذا النسق المستجد، وعلى أيدي هذا النفر من الكتاب، فإن النعْت البَصَري، الوصفيّ، الذي يكتفي بالقياس والتمَوْضع، ورسم الحدود، والتعريف، هو الذي يضعنا على الطريق الصحيح المستقيم للفنّ الروائي الجديد، إضافة إلى هذا الرصيد المعرفي، الذي يحفر حفرا عميقا في أدبيات ما يعرف بالرواية الجديدة، ثمة حوارٌ مطول كان قد أجراهُ المؤلف مع الكاتب غرييه في باريس قبل سنوات طوال من وفاته عام 2008. وفي هذه المقابلة الشيّقة يلقي المتحاوران الضوءَ على الظليل، والمخفي، في عالم الروائي، الذي لا يتردَّد في أن يقول بصراحة رأيه في الكتّاب الآخرين، أمثال: سارتر، وألبير كامو. تلي الحوار ترجمةٌ لمقال آخر لصاحب «المماحي» عن انتقال الرواية من الواقعية إلى الحقيقة. ولم يفُتْ المديني أنْ يضيف لهذه المقتطفات، والحوارات، والمقالات، دراسة بارت الموسومة بعنوان «لأدبُ حرفيا».

وفي نهاية المطاف، لا يليق بكتابٍ كهذا أن يخلو من مسرد لمؤلفات غرييه، وهو موضوعه، ومحور الحديث فيه. لذا نجد في ثبتا بأعماله السردية المنشورة بين عامي 1949 و2001.

وصفوة القول هي: إن كتاب المديني يزيل الكثير من اللبس الذي أحاط بمفهوم الرواية الجديدة، ويلقي الضوء على آثار رائد من رواد هذه الرواية، في سلسلة من القراءات والمقالات، التي لا تخلو من إمتاع وإفادة، ومن إضافة لمقاصده تشهد له بالإجادة.

كاتب أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي