بوعزة صنعاوي: القصيدة الزجليّة الساخرة

2022-08-17

حسن بولهويشات

شاعرٌ زجّال بملامح طفولية مع قليل من الكوميديا. بقميص أبيضَ وربطة عنق الفراشة كأيّ رجلٍ من أوروبا الشرقية. بسروالٍ فضفاض وقبعة رعاة البقر (لاحظوا معي الصورة). يبدو بهيئته البدوية وقامته المتوسطة كأيّ محتال يغزو الأسواق في ساعة مبكرة. غير أنّه يحتشد البراءة والقصيدة في عينيه، والعفويّةَ في صوته المندلق من الميكروفون، حين يقرأ شعرا. ويوفّر لنفسه الحسّ الفكاهي والأداءَ المسرحي حين يطلب من جمهور الشعر أن يصفقوا له، أو حين ينحني ثمّ يحيي مودّعاً.

إنّه شاعرٌ ظريف أو لنقل إنه الشّاب الظريف (شاعر مصري عاش في القرن السابع الهجري) بماركة مغربيّة خالصة. وكم فرحتُ في داخلي حين عرفت أنّ صنعاوي يعمل مدرسا في إحدى الثانويات التأهيلية في الضواحي، وغبطتُ تلاميذه الصغار، لأن نجاحَ الدرس يبدأ من الأستاذ، ومن وقفته أمام السبورة، أمّا الباقي فمجرد مراحل ديداكتيكيّة واستنتاجات.

يمثل صنعاوي القصيدة الزجلية المغربية نصّا وشكلا، بل حتى اسما إذ أنّ اسمَ بوعزة روحاني في دلالته ويحيل على أسماء المزارات والسادات النائمين على رؤوس الجبال وفي سفوح القرى، حيث هناك من يصل للتبرّك والطمأنينة النفسية عبر طريقٍ وعرة. فضلا عن أنّ مولاي بوعزة هي منطقة جميلة تقع في عمق الأطلس المتوسط، وترتبط تاريخيّا بأحداثها السياسية مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمهدي بن بركة والملك الحسن الثاني في أوج سلطته. أمّا صنعاوي فنسبة إلى صَنعة الشّعر وإلى أبي تمام وباقي الشّعراء الصنّاع، وإن كنّا متحفظين على هذه المسألة مع الشاعر بوعزة، الذي يقول الشعر على سجيته وكيفما اتفق أحيانا، دون أن تتخلى قصيدته عن النضج الفني ورشاقة الكلمات، وعن دقة الجملة التي يدخل بها والجملة التي يخرج بها. وقد كتبَ من القصائد ما يكفي احتياطيا في بنك القصيدة الزجلية إلى عام 2030، وإن كان قد نشر ديوانا واحدا فقط: «ضحكت القصيدة»(2018) وكأنّي به يردّد مع طرفة بن العبد: وَظلمُ ذوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً/ عَلى المرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.

شاعرٌ ساخرٌ إلى حدّ الإيلام والوجع، وخفيف الظل ومحبوبٌ في الوسط الثقافي لدرجة يصعب أن تلتقيه دون أن تتمالك نفسك من الضحك، يقول أحد المقربين منه. وربما هذا ما سقطت فيه صحافية القناة الثانية في التلفزيون المغربي، التي استضافته في برنامج ثقافي، فانخرطت في الضحك منذ الجملة الأولى من التقديم، ولم تستعد أساريرها الهادئة إلا حين بدأ بوعزة يستفيض بالشّرح في أمور القصيدة الزجلية، التي يُفضّل تسميتها بالقصيدة العامية، تمييزا لها عن التسمية الأندلسية. إنه الضحك الذي مثاره القراءة الاستباقية والأحكام القبلية، وهو ما يطرح السؤال بخصوص المسافة الفارقة بين الذات الشاعرة والقصيدة، ودرجة التماهي والتطابق بين هذه وتلك.

تعرّفتُ على صنعاوي من خلال فيديوهات يوتيوب التي توثق قراءاته الشّعرية. ولم يسبق لي أن التقيته ولا تحدثت معه، ولا أعرف ما إذا ما كان موجودا في لائحة أصدقائي في فيسبوك أم لا. وكلّ ما أعرفه أنّ الرّجلَ موجود وحيٌّ يرزق في قرية الرّماني التابعة إداريا لإقليم الخميسات (شمال المغرب) مسقط رأسه ومسقط قصيدته، بل إنّ أهمّ مدخلٍ قرائي لقصيدة صنعاوي هذه القرية المهمّشة التي هي في الحقيقية ليست بقرية بالشكل المتعارف عليه ولا بمواصفات المدينة، إنها الجنس الثالث بقوس قزح، الذي ما زال يناضل من أجل انتزاع حقّ دستوري في بلاد شرقية. أمّا مجلسها القروي فلا يتوفر على شجرةٍ واحدة وبالأحرى حديقة، باستثناء بيوت متكئة على بعضها بعضا، كأيتامٍ في طابور الإعانة الاجتماعية، وحافلة واحدة مهترئة تمرّ منها في الصّباح صوب المغرب غير النافع. أيضا حوانيت صغيرة ومجانين بالكثرة يحتكرون محطة التاكسيات الشبيهة بمقبرة مهجورة وانقطاع متكرر للتيار الكهرباء والماء، ورائحة مجاري الصرف الصحي عند مدخلها من جهة الخميسات. وتظل المسالك القروية المحيطة بالرّماني المركز صعبة جدّا، حيث الأطفال يصلون إلى المدارس في سرب من القطا، عفوا في قطيع من الحمير، على الرغم من أن وزيرا للتجهيز في إحدى الحكومات السابقة ينحدر من هذه القرية. هذا موضوع آخر نتساءل معه عن المنعطفات المهمة التي كانت ستأخذها قصيدة شاعرنا لو أسعفه المكانُ والشجرةُ.

نعود إلى قصيدة صنعاوي التي تنحدر أصولها من هذه التربة القاحلة، ومن الهامش المغربي وهذه البقع السوداء. ولا عجب أن يكتب عن المستشفى وسوء الخدمات الطبيّة، وعن الوردة التي لم يرها إلا مرسومة في كراسات الأولاد، أو ذابلة في أصيص الطفولة، وعن مقبرة النصارى النظيفة. وهي قصائد ترتبط بالمحلّي واليومي وتتعلق بالمعيشي وتسخر منه، ولا تتجاوز المحلية إلا من خلال الحِكم والعِبر المبثوثة في ثنايا القصيدة كدبابيس صغيرة، وهي ثمرة تجربة حياة وتجربة ألم وكتابة. وإلى هنا تمتلك قصيدته وجهين: الأول فكاهي يمثله الشّاعر نفسه وطريقة قراءاته الشعرية، والثاني يتحدد بالسخرية السوداء.

وأريد أن أشير إلى ملمحٍ أساسيٍّ في قصيدة صنعاوي، وأعني هذه الجرأة في طرح الموضوعات والاستعداد لتجاوز الرقابة واختراق التابوهات وانتقاد المؤسسات وتعرية الواقع بلا مساحيق، إنه الفاجومي المغربي مع اعتذارنا للفاجومي المصري الشّاعر أحمد فؤاد نجم، الذي تعرّفنا عليه في «أخبار الأدب» المصرية أيام جمال الغيطاني قبل أن تتعرّف السجون والمنافي على قصائده العامية. هذه هي الصورة الحقيقية لقصيدة صنعاوي، التي تُغطي عليها الصورة البهلوانية التي يريد مقدّمو الأمسيات الشعرية والبرامج الثقافية إلصاقها بالرجل بالقوة والتداول، وهي تضره ولا تخدمه. ومن واجبه الاشتغال على هذه المسألة واختيار مكانٍ يليق بقصيدته لأنّه في النهاية شاعرٌ حقيقي ويمثّل القصيدة الزجلية المغربيّة في عمقها وتنوعها وتعدّدها اللغوي، إلى جانب كلّ من إدريس بلعطار ومراد القادري وأحمد المسيح وفاطمة المعيزي وأمين زكنون، وبقية الأسماء بلا ترتيب ولا تصنيف. وأبدا، ليس صنعاوي منشطَ أعراسٍ أو مروّض ثعابين في ساحة عمومية، مع احترامنا لجميع أشكال التعبير الأخرى. وما قلناه نحن في الفقرة الأولى من المقال هو محاولة لرسم بورتريه يناسب صنعاوي الإنسان ليس إلا.

من مآخذنا الصغيرة على الشّاعر صنعاوي، محدودية عنصر التخييل في قصائده التي ترتكن إلى الواقع في مجملها، غير أنها تتقوّى بمادتها اللغوية التي تنبجس بسخاءٍ من أعالي الدارجة المغربيّة، ويحمّلها ما يكفي من المجازات والاستعارات. إنها الدارجة المكتظة بالإرث الحضاري وتاريخ قبائل زعير، من قبيلة بني عبيد إلى قبيلة الرواشد وقبيلة المخاليف، ثمّ أولاد دحو وأولاد الطيب، وبقية الأولاد والأسلاف الذين مرّوا وتخلّف الحفيد بوعزة ليكتب بلسانهم ويجرّ القارئ إلى مقامهم حين يكتب كلمة (حتّى) بتاء مثلثة أو حين يكتب (احريفات) تصغيرا لكلمة (الحروف) : بين ضحكي وبْكايَا حُرت مْنين نبدا القصة / وكيف انُّج لَك لَحكاية/ حكاية فيها أنا فيها انتِ/ حكاية فيها حثى انتَايَا/ فالاول بْديتْ/ اجمعت شِي احريفات وُ عديتْ كَان الَقلم ونيس../

نأتي إلى النهاية، ولا تنتهي حكاية الشّاعر بوعزة صنعاوي: «الَحكاية كملوها انتومَا راها فبلادكم مَرْشومَة/ راها فجلدكم مَوشومَة/ وايَّاكم تحشمو.. وايَّاكم يقولو لكم.. رَا لكمالة احشومَة».

كاتب من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي