طبائع الشعر وتشكّله في ديوان «الملح يلفظ ليله»

2022-08-16

هدى الهرمي

الشعر هو الصوت العاري وبصمة الوعي الحادّة على الأشياء. هكذا يُعرّف المفكّر والشاعر الفرنسي ميشيل دوغي الشعر. ولا تحيد الشاعرة الجزائرية أسماء رمرام عن هذا المعنى في ديوانها الشعري الصادر مؤخرا عن دار خيال للنشر في الجزائر (2022). كما تعدّ من أبرز الأقلام الصاعدة في الفترة الأخيرة، فقد كرّست نفسها لشغف الكتابة بين الشعر والقصّ، والإنتاج والنشر.

لعلّ السؤال الذي يتبادر للذهن منذ أول وهلة، هل لهذا التشعّب في الإبداع الأدبي بين الشعر والسرد تأثيرات على نِتاج أسماء رمرام؟ أم إنها تعتبر الشعر الرافد الأول والأصيل، حيث يصبح في معزل عن الأنواع الأدبية الأخرى، وهو ما يكشف بدوره عن طبائع تشكلّه من خلال ديوانها «الملح يلفظ ليله». ويبدو أن هذه المقاربة لن تنحاز إلى الشعر في صيغته الجمالية فقط، فهو منفتح ومتعدد ومختلف، ومن ثمّ يغدو العنوان المرآة العاكسة لمجموعة السياقات المحيطة بالعمل ككل، حيث العتبة الأولى للديوان، بما يدّخره من تمثّلات لغوية وملامح فنية، تؤتي سرّ تلك القوة الجاذبة لإنشاء خصوصية القصائد على مستوى الإبداع شكلا ومضمونا، ما يشير إلى تلك المسافة بين الفكرة واللغة في فحوى الإشارة المركزية، ودلائل سيرورتها الطافحة في أفق القصائد. فمادة الملح كثيفة في رمزيتها، وتُعتبر الشكل الأشد نقاءً. ومن خلال بعض الدراسات في علم النفس، يُقرّ المحلل النفسي البريطاني إيرنست جونز، بالهوس الإنساني بالملح، ويورد أن البشر منحوا الملح قيمة كبرى تفوق مزاياه الطبيعية، لتخترق هذه المادة النسيج الثقافي. ومن الواضح أن الشاعرة استدعت هذا الرمز وبثّت فيه من رؤاها وأفكارها، وطوعته لغويا كأداة تلغيم للمشاعر وتمثلِ التلاقي بين الأبعاد التخيلية والجمالية.

والمتأمّل في أغلب النصوص، يدرك أن الإحساس هو النسيج التي تغزل به مُجمل قصائدها، لتطلّ علينا اللغة حيّة ومتقدة كالشرارة. فهو بمثابة الطاقة الخلاّقة التي يضخها الشعر لتبتكر معجمها اللغوي المتفرد. ولضبط سياق هذا العمل الإبداعي وتصنيفه، تجدر الإشارة إلى أنه ديوان تفعيلة ويضمّ بعض القصائد العمودية، كما يعتمد على توجه فني خاص في الأداء الشعري، من حيث المبنى والإيقاع. ويندرج ضمن الشعر الحداثي على مستوى الصور، ما يدعم السمات الأساسية للغرض الشعريّ، وثيمة الإخلاص للكلمة ضمن دائرة لامتناهية وفق خطاب متحرر من كل تبعية لأنظمة اللغة، ينبع من حرارة العاطفة ويصطبغ بألوانها لتتبلور حياة برمّتها.

وبناء على هذا السياق، يقول الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع «كل شعر حقيقيّ هو دفاع عن الحياة». لقد اتخذت الشاعرة هذا الملمح كمادة للشعر، ليختزل وعيها وحِسها وإدراكها، فتنقله إلى صعيد مذهل غير مألوف. ما يجعل القصيدة ممتلئة بشحنة شاعرية عالية، إضافة إلى البنية اللغوية المتحركة، والتتابع الإيقاعي المتحرر من المعنى، كما لو أنها تدين الشوائب والصمت والجمود، لتندلع الحياة.

يا أيها الملحُ

كم عمرنا في المسافة؟

كم ليلةً

جمعتنا معا؟

وكم كأس شاي شربنا؟

كم قبلة لملمت بردنا؟

وكيف استطاعت عُراه الحبيبة

أن تلفظ الليل والذكريات؟

إن أيّ صوغ جماليّ لا يُعبّر بالضرورة عن صوت الذات الشاعرة حسب، وإنما يحيلنا إلى صوت الآخر، وصدى الأشياء وضجيج العالم والهمس الكونيّ. فجاءت القصائد محركة للسكون وموقظة للحواس. وقد اتخذت من التقنيات الشعرية (المجاز، التشبيه، الاستعارة) بوصلة لتوجيه نظرتها إلى الأمور بكل تناقضاتها. لتشعّ القصائد بباقة من الصور المتزامنة مع الشحنة الانفعالية والمتخفّفة من القافية في تمظهرها الإيقاعي، فيحقق ذلك امتدادا وتعميقا للمعنى.

حين تخرج منّي

خفيفا

تقبّح ما جمّل الحبّ في ليلنا

واصطفاه

أبعدك أزهد أم أنني

في الحنين إلى جسدي

أشتهي ما تراه؟

والجدير بالذكر أن نصوص أسماء رمرام حافلة بالخيال.. فهو منفلت من المنبهات الحسيّة والمؤثرات الخارجية، ويُعدّ طاغٍيا في مجمل القصائد، وقد سهّل جنوحها إلى المزج بين العناصر المتنافرة، ليكفل لها بناء عالمين متعارضين، بين البواعث والأغراص، فتتخلّص من كل نظام موضوعي وتأسره في دائرة الباطن ولواعجه، حيث سعت إلى استجماع شتات الذاكرة، بشفافية مملوءة بالحياة، ونزع تلك القشرة المسبوكة والمعتادة. لكنها تراهن على الرومانسية التي تسهم في هتافاتها الشعرية، للظفر بحالة تذوقيّة تتماهى مع الإحساس اللامحتمل، وطبائع انعكاسه في العبارات المتحولة إلى عوالم شتى دون التوازي بين الواقع واللغة.

لنا في الطريق التي

ململتنا

تفاصيل عمر

يُلوح لخَطوي

يلوّح لي من بعيد

يئنّ

ولا يدّعي أنه لا يراك

 

ثمّة شيء آخر تؤسّس عليه خطابها الشعري، هو العمق لفائدة حالة شعورية محايدة ورغبات متباينة، ممهدة السبيل إلى إصغاء القارئ، في غمرة تلك الهزة أو اللذة الجمالية، للخروج من قيد اللغة، ومشرّعة إلى علاقة مع البصيرة وإحالتنا إلى الآخر أو «الحبيب» إلى حدّ تصوره في أذهاننا لتتردّد أصداء العشق في قمم المعاني.

تنام

فتترك باب الجنون

وحيدا وراك

وإن نمت أنت

فمن لي

يُجمّل وقت السهاد

سواك؟

وإن كان ليلك نام دوني

وإن يقترفك الكرى

فالجوى يتلظى ارتباكا

وخلاصة القول إن لغة رمرام، عميقة بتوغلها في المجاز، ومشدوهة بالمشاعر، متخذة الطابع الرومانسي ملاذا لاستثارة الصور المتمثلة في ذاتها الشعرية والمستقاة من قريحة خصبة، وإيقاع خيالي رافده القويّ هو العاطفة، لتكشف عن عوالمها ورؤيتها للوجود الحسيّ دون شحّ أو بهرجة.

كاتبة تونسية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي