خضير فليح الزيدي: التقرير الروائي ومغامرة السرد

2022-08-14

علي حسن الفواز

ما يكتبه الروائي خضير فليح الزيدي يُثير أسئلة دائمة، تتجاوز السرد إلى التاريخ وإلى التخيّل، بما يمنح التدوين السردي طاقة توليدية، يستكنه من خلالها الروائي عوالم تتخفى عن الواقع، لكنها تمور بأسئلة الإنسان القلق والخائف، تلك التي تلامس وجوده وحريته، بما يجعل تلك الطاقة أكثر تحفيزا على المغامرة، وعلى الخروج من الواقع إلى الفانتازيا، وإلى شهوةِ اصطناع ما يشبه الهابيتوس الذاتي، الذي يخصّ لعبة التأليف الروائي.

هذه اللعبة السردية بدت أكثر حضورا في روايته الجديدة «يوتيوب» الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ـ 2021 بغداد، التي تقترح استراتيجيتها السردية عبر تناصات يتشعب في اشتغالها الزيدي، عبر أحداث متخيلة، وعبر تسحير الواقع وتسحير الشخصية، فهذه اللعبة تجد في شخصية «عبد الكريم علوان» العالم الأمريكي من أصول عراقية، مجالا دلاليا تتحرك عبره، لتأطير المبنى الحكائي، وللكشف عن تحولاتها الغرائبية، وعن تشظيها عبر أقنعتها، وعبر انتقالاتها في الأمكنة التي تبدأ من قرية أم الوسواس، وصولا إلى افريقيا والولايات المتحدة، وانتهاء بالتخطيط لرحلة غرائبية إلى المريخ، تلك التي اصطنع لها الروائي تناصاً مع هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، إذ يقوم بها بعض المنفيين العراقيين هربا من الظلم والاستبداد، وتفاديا للدمار الذي سيتسببه اصطدام كويكب تائه بالأرض.

البحث عن المنقد/ المُخلّص، أو الغائب قد يكون أحد ثيمات الحركة الرئيسية في الرواية، التي تستعير بعضاً من أدوات الرواية البوليسية، من خلال توظيف ثنائية المطاردة والتشويق، إذ يتم تكليف أحد الضباط في الداخلية «المُقدم عبد الله الراجحي» بمطاردة عالم الفضاء العراقي الغامض، والمهاجر عبد الكريم علوان، لغرض إلقاء القبض عليه، لأنه يبثّ الرعب في رسائله عبر شخصيته المُقنَّعة والموازية «عبقرينو» حول تتبع مسار الكويكب، وإمكانية منعه من الاصطدام بالأرض.

لعبة الاستقصاء هي جوهر التقرير الروائي، التي يوظّفها الروائي كمحايث دلالي للعبة المطاردة، التي تتحول إلى ملاحقة للحدث ذاته، عبر الكشف النسقي للمخفي الاجتماعي والنفسي والسياسي في الواقع، وعبر إيجاد الترابط الخفي بين أقنعة الشخصية الرئيسية – عبد الكريم علوان، كريم قدحة، عبقرينو- بوصفها شخصيات تتمثل الطائع الانشطاري للشخصية العراقية، التي تتكشف علاماتها التعبيرية عن سيمائية السخرية والكوميديا السوداء في الواقع العراقي. حُسن توظيف هذه الأقنعة، ينطوي على وظائف مختلفة، لكنها تتجوهر في تمثيل شخصية «البطل المأزوم» الذي يجد في تلك الأقنعة لعبة هروبية للتمرد، والرفض والسخرية، مثلما يصطنع لها الروائي توظيفا لتناصٍ «ميتاسردي» يعمد عبر قصديته إلى تحفيز لعبة التأليف والتخيّل، ولكي يجعل من «فكرة الراوي السعيد» موجّها لتتبع حكاية «الانفجار العظيم» ولتدوين تسجيلات «الروزنامة الفلكية» فضلا عن تعالقها مع منصات الرسائل والوثائق والتقارير التي يقدمها (المقدم عبد الله) إلى «معالي السيد الوزير» وكذلك التقارير السرية للمخبر المُكلّف (حمد الله الباقري) وهي تسمية مفارقة وساخرة، تستغرق السرد، لتكشف عن عيوب الواقع، وعن خفاياه، وعن رعب ما تصنعه السلطة، فالمخبر/ المُكلّف، هو العين الخفية لها، إذ يراقب الشاردة والواردة في الشارع، وفي مقهى إدريس، ويكتب عن أدق التفاصيل عن الأمكنة الأرضية، في جامع الرحمن وفي شارع الرشيد وفي الشورجة وفي الدرابين، ومحال الأنتيكات والأسواق، مثلما يكتب عن طبائع الناس، وما يأكلون- القيمر والكاهي المخلوط بالشيرة السائلة – وما يستمعون إليه من الأغاني «المثقلة بالأسى لقارئ المقام يوسف عمر» وما يتحدثون به عن همومهم، وعن خوفهم وهم ينتظرون السقوط المتخيل للكوكب عليهم، وكأنهم ملعونون ومحكوم عليهم بالعقاب الإلهي..

رواية «يوتيوب» ليست رواية خيال علمي، ولا رواية فانتازيا بالمعنى الوصفي، بقدر ما هي رواية/ أو تقرير روائي ذات نزوع تمثيلي مختلف، أراد من خلالها الروائي تقديم «ملهاة عراقية» تتزاوج فيها السخرية والمرارة.

العنوان والعتبات النصية

تضع الرواية قارئها أمام تناصات مركّبة، تبدأ من العتبات – العنوان الرئيس ذي الحمولة التقنية والبصرية، ولا تنتهي عند العناوين الداخلية – وهي تناصات تتجاور مع بعضها لتقوم بوظيفة تغذّية السرد بالتخيّل المُفرَط، مثلما تُسهم في التعبير عن سردٍ مغاير في الوظائف والدلالات، وعبر تقويض وخلخلة البنى النمطية، وتشظية الشخصيات في أقنعتها، وعبر تغريب الأمكنة في سيولتها، بما يجعل الواقعي غرائبياً، فالعتبات – ثلاث إشارات فقط، الأسئلة الأبدية، تعميم، إلقاء القبض، ثلاث إشارات فضائية/ ملحق1، ملحق2، ملحق 3» تتحول إلى محركات دافعة لتسريد التقرير الروائي، وكأن الروائي أراد أن يتجاوز من خلالها فكرة «الحكاية» ليصطنع سردا متعاليا يقوم على تقانة التقرير، وعلى وجود نسق خارجي تتجوهره المطاردة «البوليسية» أو «السياسية» والبحث عن البطل الغائب أو الهارب أو المتحول، وعلى نسق داخلي يتجوهر في إحالاته وفي دلالته على أزمة الإنسان العراقي المُهمَّش والمُحاصر بعوامل العزل في بيئة «الوساوس» والغارق في بيئة الخوف والجهل والاستبداد، الذي يجد في التعلّم حافزا للبحث الضدي عن وجوده وحريته وهويته، وللانغمار في هروب جغرافي يقوده إلى «أمكنة دوستوبية» وإلى مدن حالمة في افريقيا وفي الولايات المتحدة، وصولا إلى الهروب الفانتازي، حيث التفكير بالهجرة المريخ بوصفه «الجمهورية المتحدة» التي تمنح السعادة المُقترحة والمتخيلة.

غرائبية السرد، أو لعبة الروائي في اصطناع فضاء سردي مُفارِق، يتشكّل عبر مغامرة بطله الشخصية الشائهة والحالمة، والمهووسة بالبحث عن الأسرار، إذ تتحول أسرار الفضاء إلى هاجس يعيش معها قلقه وحلمه، وعبر توظيف بنية التقرير الروائي من جانب، وتقانات عالم تكنولوجيا المعلومات عبر برامج وتطبيقات، ومنصات من الصعب ملاحقتها أمنياً، حتى يبدو وكأنه يكتب عبر هذه التناصات تمرده القديم على عالم «أم الوساوس» أو يعيش تخيّله بكتابة تاريخ «سائل» و»ساخر» لا علاقة له بالأقوياء الذين تعودوا صناعة «التاريخ الصلب» حيث صلابة السلطة، والقوة والمراقبة والسجن والقهر.

السردية الساخرة

قد تبدو أقنعة «كريم قدحة» أو «البروفيسورعبد الكريم علوان» أو حتى «عبقرينو، عائدة لشخصية واحدة، لكنها تصطنع لها مجالات رمزية مختلفة، فالأول هو الرجل «الدونكيشوت» الحالم بالبطولة الواهمة، والثاني هو الرمز الساخر من واقعه في المدرسة وبين الطلاب وفي الواقع، والثالث هو الكائن الذي يملك شطارة العيارين في ابتكار لعبة المواجهة عبر البرامجيات والتطبيقات، وكأن الروائي وضعنا أمام مقاربات لبنى سردية متعددة، تبدأ من بنية التقرير، إلى بنية الميتاسرد، وانتهاء ببنية التشظي الذي تعيشه تلك الشخصيات في الزمن السردي، وفي الأمكنة التي تكاد تقترب من أمكنة إيتاليو كالفينو، تلك التي تتحول إلى أمكنة ضد واقعية، لكنها خصبةُ للسرد والتخيّل. الحديث الساخر عن الرحلة إلى المريخ عبر باص فضائي، يجر القارئ إلى الحديث عن المناصة التطهيرية، مع حديث التاريخ، وإلى السردية الإسلامية المبكرة، حين يؤمر ستون مهاجرا بالهجرة إلى الحبشة، ليجدوا عند ملكها النجاشي العادل رحمة وعطفا، وهو ما اصطنع مناصة الروائي عبر هجرة ستين هاربا من المهمشين، أو المطاردين سياسيا إلى «جمهورية المريخ السعيدة» لقبول هجرتهم، وليجدوا عند «ملك ملوكها» نجاشي المريخ، العطف ذاته الذي يتقاطع مع الجمهوريات الأرضية المحكومة بالاستبداد والعنف، والتي يطمح أن تكون ملجأ كونيا آخر للمطاردين من الكوكب الأرضي المُهدَد بالفناء والعامر بالاستبداد، وليصطنعوا لأنفسهم تناصة مُتخيّلة مع مثيولوجيا «الفرقة الناجية» وعلى نحوٍ يكون فيها الخلاص مكانياً وليس فكرياً وقيمياً كما تقول حكاية الخطاب الديني..

الظل الأرضي أو محنة الكائن

بقدر ما أن الهروب إلى المريخ هو خيار فانتازي، فإن البقاء في الظل الأرضي هو تمثيل وجودي لمحنة الإنسان الذي يطارده المقدس، مثلما تطارد السلطة، أو يطارده الخوف، فمحنة المعلمة ميسون التي يعشقها عدنان تكشف عن ذلك العذاب الأرضي، فرفض ابيها «الشيخ طاووس» بسبب أن «عدنان» علماني، وغير متدين، تؤطّر علاقات هذه الشخصيات في سياق الرمزية القهرية لـ»المقدس» التي ينخرط فيها أيضا «جبار الأملس» وهو شخصية هامش وظل، لكنها وضيعة، ومسكونة بالوعي الزائف والخرافة، فضلا عن شخصية «بيداء العلوجي» التي تعيش عذابها الشخصي مع زوجها المخادع والمهمل، الذي قُتل في الحرب، وتجد في كراهيتها لعالم الرجال معادلاً لكراهيتها للوجود الأرضي، والبحث عن الخلاص عبر اصطدام الكويكب بالأرض، وحتى قصة أحلام زوجة المُقدّم عبد الله الراجحي التي تعيش إحباطها العاطفي والجنسي، والتي نظير محبة السلطة ذاتها التي تعيش وهم مطاردتها للآخرين، دون الاقتراب من عالمها الجواني المليء بالعوز والحاجة والشبق.

إنّ النهاية المفتوحة والساخرة للرواية، تجعل من الغلق الزائف لموضوع «القضية» مقاربةً لإنجاز «التقرير الروائي» عبر تزييف نتائجه، واصطناع «وهم العدو» أو «الضحية» من خلال ترشيح شخصية البديل من المجرمين المعتقلين في السجون الحكومية، بعد تغذيته بالمعلومات على طريقة ما ورد في «اختيار الزعيم» كما في مسرحية عادل إمام، الذي يؤدي وظيفته الساخرة والناقدة للسلطة العاجزة عن حل مشكلة الفقر والوسواس والجريمة، من خلال السخرية من رموز السلطة/ المعالي، و»نخبة فريق التحقيق» التي تفشل في إلقاء القبض على «عبقرينو» والسيطره على مجاله البصري والرمزي.

رواية «يوتيوب» ليست رواية خيال علمي، ولا رواية فانتازيا بالمعنى الوصفي، بقدر ما هي رواية/ أو تقرير روائي ذات نزوع تمثيلي مختلف، أراد من خلالها الروائي تقديم «ملهاة عراقية» تتزاوج فيها السخرية والمرارة، عبر شخصيات لا جذور عميقة لها، لكنها تصطنع تاريخا زائفا ووجودا أكثر زيفا، بما يضع القارئ أمام لعبة سردية يتشظى فيها التخيّل السردي إلى ملامسة وقائع «مسكوت عنها» تمس الظاهر والخفي في الحياة العراقية في مرحلتي الاستبداد السياسي، وفي مرحلة الاحتلال الأمريكي…

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي