رواية «الحارس في حقل الشوفان»: وعي المرحلة والمتسع الدلالي

2022-08-12

رامي أبو شهاب

عُرفت رواية «الحارس في حقل الشوفان» التي نشرت لأول عام 1951 للروائي الأمريكي جيروم ديفيد سالنجر بلغتها، ومزاجها الغاضب، وهنا لا يمكن أن نتأمل النص بقدر ما نرغب في تمكين السياقات التي أحدثت هذا المزاج السردي، حيث كانت أمريكا في زمن تنحت هويتها، كما تحاول أن تتجاوز أزماتها بعد الحرب العالمية الثانية، ولهذا تبدو الرواية جزءاً من فاعلية تحديد الهوية التي لا يمكن أن تستند فقط إلى مقولات كبرى تتعلق بالأيديولوجيا – على الرغم من توفرها- إنما تعتمد الذات الصغرى شديدة التعقيد، ونعني الإنسان، وهذا يعدّ مستوى من مستويات التكوين الدلالي، الذي يضمر خلفه الكثير من الرؤى، فتبرز رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي سالنجر، كي تكون إحدى الخطابات المعنية باكتناه الذات، وهي تواجه العالم، مع قدر كبير من التأمل في السّياقات النفسية والاجتماعية والتاريخية.

الرؤية من الداخل

يرى مترجم الرواية الروائي الأردني غالب هلسا، أن رواية سالنجر تشبه رواية «عوليس» للكاتب الإيرلندي جيمس جويس، كونها تعتمد خاصية الزمن المحايث المتصل بذات الشخصية المحورية في رحلة متعددة الأبعاد، ففي رواية سالنجر تظهر شخصية طفل (هولفيلد) أو يمكن القول المراهق الذي يعاين العالم لا على مستوى الوعي بذاته وتحولاته حسب، وإنما ضمن ظاهرة انغماس الوعي في المحيط الخارجي، الذي يبدأ من الذات، مروراً بالعائلة، ولا ينتهي بالمدرسة، والشارع، مع ما يكمن في هذه القطاعات من عوالم البالغين أو الكبار، وما يكتنفها من فيوض الزيف.

لا تبدو الرواية من منظورنا سوى مروية لا تتكئ على مرجعية عميقة، أو واضحة في إطار سياسي أو أيديولوجي (ظاهريا) بمقدار ما يمكن أن تعد رواية اجتماعية نفسية ذات مردود ربما – للوهلة الأولى – لا يروق للكل أو يتفهمه، إنما في الحقيقة فإن الرواية يكمن في داخلها تسنين ثقافي عميق يمثل جملة من الإدراكات تختبر الحياة، لكن ذلك يتطلب ممارسة قرائية ضمن إطار سردي بغية خرق ستار سميك من المكنون الداخلي للذات البشرية.

تبدو الرواية في صيغتها حمالة للكثير من النزعات النفسية والسياقات الاجتماعية، لكنها لا تعدم أيضاً قراءات تتعلق بالجملة الثقافية التي تنهض على منطلقات القوة والسيطرة، غير أنها تبدو هنا أسيرة التقييم الاجتماعي لعوالم الإنسان القائم على التمايز بين عالمين: الأول نقي، والآخر مزيف وملوث.

الغائية الدلالية

ينهض عنوان الرواية على مقصد دلالي مخاتل، يستند إلى وظيفة الترميز انطلاقاً من قصيدة الشاعر بيتر بيرنز، حيث ينتقل الأفق الدلالي من جدل الانزياح نحو البراءة، وهذا يمكن أن يقيم تكويناً واضحا للمستويات الدلالية للرواية، التي تنهض على بنية ثنائية يتقصدها سالنجر، لكنها ليست بالقدر الكافي من الانتهاك على مستوى الكشف، ولهذا طالما اتهمت الرواية بفقدان الغائية الدلالية، وعدم قدرتها على توجيه مقصدية محكمة، ولاسيما مع هذا الفيض من اللغة التي شكلت أحد عوائق تلقي الرواية، لما تحتمله من عامية نيويورك؛ التي تأتي على لسان مراهق غاضب، غير أن القيمة الفعلية للرواية – على مستوى التشكيل- تنهض على اللغة التي تعدّ جزءاً من مخالفة النقيض، أو بمعنى آخر خلق القيم المضادة للعالم، فإذا كان هولفيلد في مجمل النص حانقاً غاضباً ينتقل خلال (48) ساعة بين عدة أمكنة بعد طرده من مدرسته، يلتقي مع أصدقاء وغرباء، يحتسي الخمر، يزور شقيقته الصغيرة، ومن ثم يلتقي مجموعة من الراهبات، ومومسا، يتشاجر مع البعض، يتحدث مع سائق التاكسي، فإنه كل هذا يمثل قطاعاً عريضاً للعالم بما يمكن أن يختبره الإنسان، وهذا يأتي محاذياً لقدر كبير من الزيف الذي يؤطر عالم الكبار، أو البالغين، وهكذا نلاحظ أن سلوك هولفيلد، ومتلفظه في ما يتصل بالأطفال في مشهد الحديقة، ينطوي على رغبة حقيقية في أن يحميهم، ويقودهم، أو أن يبقيهم في عالم غير ملوث، وبهذا يمكن إدراك المفعول الدلالي لتعبير الحارس في حقل الشوفان، إذ يمكن التقاط البعد التأويلي للحوار الذي وقع بين هولفيلد وسائق التاكسي، حين تساءل الأول عن بط البحيرة، وأين يذهب في فصل الشتاء؟ إنه سؤال يحيل إلى التكوين الذي يشغل ذهن هولفيلد، فالبط ربما يعدّ تكوينا موازياً لعوالم الطفولة والبراءة، فالرواية في مجملها تقيم ذلك التوتر المزمن بين المكان الذي ينتمي إلى عالم الكبار، ذلك أن هولفيلد يمقت المدينة، والمدرسة، والكنيسة، والسينما، كما يمقت كل ما يتصل بهذه الكيانات، فيكون تموضعه دائما خارج هذه الأمكنة، أو بعيداً عما يفترضه وجود الكبار كالأب، والمعلمين، ورجال الدين، والممثلين، وغيرهم من رموز السلطة.

إن الرواية تقع في مجال بيان قيمة السلطة التي تجعل من عالم الأطفال أقل براءة، وأكثر ضجراً. تكوين شخصية هولفيلد، الذي يتعرض لكثير من الجدل، هو بيان تطوره أو نموه في الرواية، وأن مفهوم الرواية التكوينية اتصالاً بتمركز الشخصية الرئيسية، قد يبدو غير واضح المعالم، فرحلة هولفيلد خلال يومين لم تجعله يتطور أو ينضج أو يدرك أن ما يحمله من تصورات ربما تكون خطأ، إنما كان تأكيداً على أن منظوره صحيح، فيما يتعلق بعوالم الكبار، وأن تجربته كانت فقط لتأكيد هذه الخاصية في وعيه النقي، فالرواية مسكونة بزاوية الرؤية التي يمثلها هولفيلد، وهي العين السردية التي يمكن أن تلتقط إدراك التعقيد الذي يسكن عوالم المراهقين أكبر مما نعتقد، فالرواية تبدو جزءاً من نقد البنى التي مثلتها الرأسمالية الغربية، وما تشهده من تسارع بُعيد الحرب العالمية الثانية، فمدينة نيويورك تنمو بشكل مطرد، وسريع، ناهيك من التحول الذي يبدو جزءاً من عملية استلاب لقيم البراءة والجمال كافة، التي تستهلك مع الوقت، وهكذا يمكن القول إن الرواية تحتفي بمستويين هما: المكان والزمان، ومبدأ التسارع، في حين أن الإنسان ليس سوى ذات وموضوع، أي أنه المسؤول عن هذا، كما أنه يعدّ الأكثر تأثرا بكل هذه التحولات.

الموقف القيمي

تبدو معضلة الرواية في موقفها الأخلاقي من المدينة التي تظهر صورتها عبر الأمكنة التي يعبرها هولفيلد، في حين يوازي ذلك حقل الشوفان، بوصفه تعطيلاً للمدينة التي يمقتها الشاب في معاينته، واختباره لكل حدث يتقاطع معه في رحلته؛ ولهذا تبدو محورية الانعزال واليأس والقنوط، إحدى مفرزات هذا التكوين العاطفي لهذا الفتى، فهو يتخذ موقفاً عدائياً تجاه أي منطق عقلاني من وجهة نظره، بل أنه يمتد ليصبح موقفاً وجودياً لا يمكن أن يُقاس على ذهنية المراهق، بل ربما يشمل الذات الكلية، غير أن ملامح ذلك أشدّ ما يكون لدى الوعي الثائر على هذه القيم المادية، فموقفه من ممارسة الجنس أو حتى انطباعه حول الجنس يمثل جزءاً من المعضلة التي لا يدرك كيفية التعامل معها، كما رفضه لممارسة الجنس مع المومس في الفندق مقابل رغبته بالتحدث إليها فقط، وفي كل موقف نرى المنظور المادي يحكم كل شيء، فهولفيلد يبدو ساكناً في وعيه، وعمره، وإدراكه. إنه شاهد على ما يدور حوله، وهو ساخط على كل شيء؛ ما يبرر التكرار الواضح للشتائم التي شكلت إحدى أهم المآخذ على الرواية، وتسببت بمنعها لفترة طويلة، غير أنها تعد – حقيقة – جزءاً من الصيغة السردية، لا بوصفها محاولة تمكين الإيهام الواقعي بمقدار ما إنه أسير حاجة دلالية لا يمكن أن تكتمل دون هذا النهج في البناء السردي، وهكذا فلا جرم في أن يقرأ بعض النقاد دلالة الاسم (هولفيلد) بما يحيله في اللغة الإنكليزية بمعنى الانتظار أو التوقف؛ أي أن هولفيلد يقاوم الانجرار نحو قيم البالغين، أو هذه اختبار القيم السلبية التي تنضح فيها مدينة كبرى بما يحيط بها من كآبة وخواء.

يرى بعض النقاد أن الرواية تقع ضمن الدعاية الشيوعية، ولهذا كان حجبها جزءاً من مقاومة هذه الدعاية في ذلك الزمن، ولننظر في بعض المواقع الدلالية في الرواية، لنلتمس قدراً من الآفاق الدلالية، حين يصف هولفيلد أن المدرسة كلما ارتفعت تكاليفها ومستواها الاجتماعي ازداد عدد اللصوص فيها، ولتأكيد دلالة موقفه من أن كل ما يتصل بهذا العالم ينتابه الزيف، ما يفسر سخريته من النفاق المجتمعي، ومن ذلك حين يصف أحد أساتذته والديّ هولفيلد بأنهما طيبان، لكن تمتد تلك الرؤية كي تطال جملة كبيرة من بيان الزيف، إذ يكاد لا يخلو مستوى إلا وقد علق عليه هولفيلد بالشتم والسخرية، ومن ذلك المدرسة، والمعلمون، والسينما، والمتاحف، والمحامون، ورجال الدين، والروائيون، وطلاب الجامعات، كما مدينة نيويورك عينها، وكأنه يرثي الحياة المدنية المعاصرة برمتها، وفي مظاهرها المؤسساتية كافة، في حين يمكن تبرير هذا بموقف الروائي المثير للجدل الذي انقطع عن العالم، وانعزل انعزالاً تاماً، قد تبدو الرواية نوعاً من التشكيل لموقف غير قاصر على اكتناه حدود وعي الطفولة أو المراهقة، وقد يتسع ليطال قضايا أخرى أكثر عمقاً.

في ختام الرواية، مع إشهار الرغبة في الانعزال عن العالم، الذي سرعان ما يتبدد مع حضور شقيقته «فيب» وهي تجلس على الأرجوحة، وهنا ينشأ التحول نحو هدف قيمي، كونه يرغب في أن يبقى قريباً منها، فحين تسأله شقيقته عن رغبته في الاختفاء، يعلن بأنه سيعود إلى البيت، وهذا ما يصدق عليه الفصل الأخير، مع شيء من الندم بداعي ما أخبر عنه؛ أي بمعنى أن يروي، فجميع الشخصيات التي تحدث عنها فقدها بمجرد أن أمست جزءاً من الحكاية؛ ما يجعل من الرواية فعل إخبار أو جزءاً من تتمة فكرة العزلة؛ ولهذا ينبغي ألا يروي لأن هذا سيقود إلى فقدان الكثير، وكأن الرواية تخلص إلى هذا النتيجة بوصفها فعل تتويج واضح لرؤية الرواية، وتمثلها النفسي في ذهن سالنجر الذي ترك نصاً قادراً على أن يولد رؤى، وتأويلات متعددة، كما أن يجعل روايته من الأعمال التي لا يمكن أن تنجز مقولتها وتذوي، كونها قادرة على التسرب للماهية البنيوية لمراحل حياة الإنسان، وتفكك ما يمكن أن يسكت عنه في كثير من الأحيان.

كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي