سمير عطا الله في «جزيرة دوس سانتوس»: بين برد التقاعد المُقيم ودفء الحب العابر

2022-08-05

سلمان زين الدين

في نوفيلاّه الجديدة «ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس» (الدار العربية للعلوم ناشرون) يحملنا سمير عطا الله إلى عالم أبعد بكثير من عوالم مقالاته الصحافية؛ ففي حين نبقى في هذه الأخيرة ملتصقين بالواقع المعيش، ننطلق معه في الأوّل إلى فضاء المتخيل الروائي، فنتخفّف من الواقع ووقائعه القاسية، ونحلّق على أجنحة الخيال بحثاً عن لحظات نوعية خارج إسار الزمن الكمّي الثقيل.

منذ عتبة المقدمة، يكشف سمير عطا الله أوراقه، ويشير إلى حكاية وضعه الرواية، وينبّهنا إلى أنّ شخصياته متخيّلة وأحداثه وهمية وبعض أماكنه مخترعة، وأنّ ما يرويه لا أساس له من الواقع، فتشكّل المقدمة تنويعاً على ما يُصدّر به الروائيون رواياتهم من أنّ أي تشابه بين أحداثها والواقع هو من قبيل الصدفة. هم يفعلون ذلك غالباً لتلافي الإحراج. أمّا في حالة سمير عطاالله فلست أدري ما الذي حدا به للقيام بذلك، متخلّياًّ عن ورقة الإيهام بالواقع طالما أنه لا إحراج ولا من يحرجون.

واقع ومتخيّل

في «ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس» يطرح عطا الله أسئلة التقاعد والعزلة والفرص المتأخّرة والاستعمار والعنصرية، بنسب متفاوتة. ويتّخذ من الحقبة الاستعمارية وعهد الديكتاتور البرتغالي أنطونيو سالازار خلفية تاريخية للأحداث، يطغى حضورها غير المباشر على المباشر، على المستوى النصي. وهي أحداث تجري بين لواندا الأنغولية الافريقية ولشبونة البرتغالية الأمريكية الواقعيتين، وبين بلدة إيستوريا دي ليبرداد وجزيرة دوس سانتوس المتخيّلتين، على المستوى المكاني العام. أما الأماكن الخاصة فتتراوح بين المقهى والمخفر والشقة والدير وغيرها.

مثلث روائي

تتمحور الأحداث حول مثلّث من الشخصيات الروائية التي تلعب دوراً محورياًّ في الرواية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وتحفّ بها شخصيات أخرى فرعية تتعالق معها بشكل أو بآخر، ويتفاوت حضورها النصًّي والحَدَثي من شخصية إلى أخرى. والرواية هي نتاج هذا التعالق بين الشخصيات المختلفة، الرئيسية والفرعية، ولكلٍّ منها مساره ومصيره الروائيان.

عزلة طوعية

رأس المثلّث في الرواية هو المدرّس المتقاعد رودريغز دو سيلفا، شاعر الأطفال وكاتب الأغاني، الذي يخلد إلى عزلة طوعية في بلدة إيستوريا الساحلية المتخيّلة، ويمتنع عن الخروج منها حتى لاستلام راتبه التقاعدي. غير أن اتصالاً يرده من أخته ميموزا في الجزيرة يلحّ عليه لتمضية رأس السنة عندها، والمشاركة في ذكرى العمّ فابيوس يخرجه من عزلته ويشكّل نقطة تحوّل في مساره الروائي يكون لها ما بعدها من تداعيات. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الرواية برمّتها تقوم على مجموعة نقاط تحوّل تتحكم بمجرى الأحداث، وتذكّر بمفهوم «الوقائع المفيدة في النزاع» باللغة القانونية التي تترتّب عليها نتائج معينة. والاتصال الذي يتلقاه رودريغز هو نقطة التحوّل الأولى في مسار الشخصية. تليها نقاط أخرى توجّه هذا المسار، وتتمخّض عن ملامح الشخصية؛ فلقاؤه بالمذيعة الجميلة لارا أندريا ريبيرو التي تحفظ بعض قصائده يوقظ فيه عاطفة الحب، التي هبّت عليه في الخامسة عشرة من العمر وتكفّلت أمّه بقمعها حين طردت ويندا من حياته لأسباب عنصرية، فقرر أن يطرد من حياته جميع النساء. وقد ساعد الليل والحديقة والشعر في إيقاظها. غير أن هذه العلاقة تولد ميتة لعدم التكافؤ بين طرفيها، فتنقطع في اليوم التالي لتبقى جرحاً مفتوحاً في قلبه يتكفّل الزمن بإقفاله في نهاية الرواية. ولقاؤه في السفينة بصوفيا، خليلة عمه السابقة، المتوجّهة إلى دير راهبات الكلارسيات في لشبونة، يشكّل بداية علاقة بينهما، فيدعوها للإقامة معه في شقّته في ليبرداد، وتترجّح العلاقة بين مدٍّ وجزر، وتبلغ حد التواصل الجسدي في إحدى محطاتها غير أن تأخرها عن الموعد، كما علاقة الحب، يحول دون أن تستمر، فتعود صوفيا إلى ديرها، ويؤوب رودريغز إلى عزلته. وهكذا، نكون إزاء شخصية روائية ترتاح إلى عزلتها، تعاني ازدواجية في هويتها، تدرك إضاعتها الفرص، فتنفعل بالأحداث أكثر ممّا تفعل فيها.

مظالم مختلفة

الزاوية الثانية في زوايا المثلّث الروائي هي صوفيا ابنة الكاهن هنريكس التي تغادر مع أسرتها البرتغال إلى لواندا، ويدفعها الفقر والجوع وشلل الأب الجزئي إلى ممارسة الدعارة مع أختها ألكسندرا لإعالة الأسرة. غير أنّ وقائع معيّنة تحدث معها، وتشكل نقاط تحوّل في مسار حياتها؛ فإلقاء القبض عليها في حالة بحث عن الزبائن في مقهى مجاور لدائرة الشرطة في لوندا، يضعها بين يدي الكولونيل فابيوس الذي ينتشلها من وحل الدعارة ويتّخذها خليلة له، ويمدّ يد المساعدة لأسرتها. ولقاؤها برودريغز في السفينة سيجعلها تلبّي دعوته للإقامة معه لبعض الوقت. غير أنّ نقطة التحوّل الأهم في حياة هذه الزاوية التي تتمثّل في لقائها البحار الأمريكي خواكيم سانتانا في مقهى المتروبول في لواندا قبل القبض عليها ببضعة أيام، وتعهّده بالزواج منها، وتحقيق هذه الأمنية في نهاية الرواية، ولو بتأخّر سنين عن الموعد، ستجعلها تؤسّس أسرة سعيدة وتعوّضها عن العذابات التي عانتها في حياتها. وهكذا، نكون أمام شخصية وقع عليها ظلم الفقر والجوع والمرض والفقد والجسد والغربة، لكنها استطاعت أن تصمد في وجه هذه المظالم حتى ابتسم لها القدر في نهاية المطاف بالزواج ممّن تحب، وتأسيس أسرة سعيدة معه في بروكلين الأمريكية.

رمزية وطنية

الزاوية الثالثة والأخيرة في مثلّث الشخصيات الروائية تمثّلها المذيعة الجميلة لارا التي تنام البرتغال على تحيّتها المسائية. غير أنّ حضور هذه الزاوية في الرواية هو حضور غير مباشر، من خلال تأثيرها في معجبيها ومشاهديها ورمزيّتها الوطنية، وليس من خلال التعالق المباشر مع الشخصيات الأخرى. ولعلّ الحضور المباشر يقتصر على ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس التي أمضتها برفقة رودريغز الذي رأت فيه صورة الأب، أكثر ممّا رأت فيه صورة الحبيب، ما جعل افتراق المسارين مسألة حتمية. وتتمظهر رمزية هذه الشخصية الوطنية، ناهيك من سحرها وجمالها، في اختيارها لتغطية جنازة أماليا رودريغز مطربة الفادو البرتغالية، من جهة، وفي إطلالتها على الشاشة لتحيي المشاهدين بالتزامن مع سقوط الديكتاتورية وتَحَوُّلِها إلى رمز لثورة القرنفل التي أطاحت بالديكتاتور، من جهة ثانية. وهكذا، نكون إزاء شخصية كاريزمية، رمزية، لها سحرها وتأثيرها في الآخرين.

إلى جانب هذه الشخصيات المحورية، ثمّة شخصيات أخرى تحفّ بها وتتعالق معها بطريقة أو بأخرى، ولم يكن حضورها العابر في مجرى الأحداث ليقلّل من رمزيتها الروائية؛ فالعم فابيوس شخصية نبيلة يتمظهر نبلها في: انتشال صوفيا من وحل الدعارة، مساعدة أسرتها، احتضان أسرة أخيه، والإيصاء لصوفيا بنصف ثروته. والشقيقة ألكسندرا ضحية الفقر والجوع والمرض والزوج. والأب سانتياغو يمثل السلطة الدينية المحلية بتشدّدها ومرونتها وانخراطها في الحياة، وتعاطفها الخجول مع الثورة. والكابتن خورخي دورتيكوس يمثل السلطة الأمنية المحلية، بتوجّسها من الغرباء، ومحافظتها على الأمن، وبثّ العيون والآذان بين الناس، والتعاطف مع المحبّين. والبحّار الأمريكي خواكيم سانتانا يمثّل الحبّ والبرّ بالعهد والوفاء. وهكذا، يمكن القول إن شخصيات الرواية، الرئيسية والفرعية، تمثّل بمعظمها قيما إيجابية تشي بتمخّضها عن حتمية انتصار الحياة وتقدّمها، رغم عسر المخاض. ولعلّ ولادة صوفيا ولارا، في نهاية الرواية، بالتزامن مع سقوط الديكتاتورية، خير دليل على هذا الانتصار.

«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس» رواية قصيرة، تبعدنا عن الواقع ووقائعه القاسية، وتمنحنا فرصة التحليق على أجنحة الخيال، ولو إلى حين.

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي