قيل له: الله محبة

2022-08-04

قاسم حداد

قيل له: تذهب إلى «أوال»

فجلس يصوغ تاريخاً لأرضٍ عصيّةٍ على النسيان.

أرضٌ تزدحم ذاكرتها بالمقابر، بكائيات كونية، بحيرات سريّة من الماء، عذبٌ موغلٌ في الغموض. أرضٌ تجهش كلما مَسَّتها يدٌ تَجُسُّ الألمَ فيها. أرضٌ بالغتِ الأساطيرُ في مديحها واستجارتْ جناتٍ بها، واستفردت بها الجحيم.

قيل له: «أوال».

فجلس يصوغ تاريخاً لها.

يفتح كتاباً، فتفيض الرمالُ في هيئة عباءةٍ وخيام تغمر الصحراء وتبتكر الواحات. يفتح كتاباً، فتطفر ثلة من الخيول بفرسانها، مصحوبة بالغبار وصليل الآلات. يفتح كتاباً، فيشبُّ النخلُ مثل رسائل الطين توقظ غفلة السماء ترد وحشاً عن نوم القرى. يفتح كتاباً، فينهمر البحرُ، يغسل المدن من أثر الكوابيس وإرث الوهم.

يفتح كتاباً،

ويبدأ في المحو.

يطير في وجهه غرابٌ أسعفُ، تقفز السباعُ ويتفصَّدُ ماءٌ قديمٌ يكاد أن يفسد لفرط السكون والغياب والعذاب والهجرة. فتبدأ النادبات في درس الوحشة،

وتكف الضروع عن الدَّرْ.

لا يفعل سوى ابتكار الكتب.

٭ ٭ ٭

الآن،

فيما يخرجون أفواجاً إلى الخريطة، رافعين بيارق الفرح الطفوليّ، كمن يرى الشمس للمرة الأولى، لفرط كثافة الغيوم المنخفضة طوال أشهر السنة، يأتون من أعماق غرفهم المعتمة إلى أكثر الأرصفة اتساعاً في شوارع الغرب قاطبة، أرصفة تكفي لنصب السرادق وقرع الأجراس وتحريك السواكن. فجأة تجد المقاعد والطاولات تصطف في انتظار المارة، وتنشأ في الأخشاب خضرة وزرقة وحمرة في قوس قزح باهر من أجل أن ينسى المارة الطريق إلى البيت، حيث الشمس تُحسن مكافأة صبر انتظارهم طوال الأشهر الباردة، لكي يحسنوا الاحتفال بالفصول.

هل تعرف الفصول؟!

وأنت في الصيف الدائم المتواصل المستمر؟

هل تعرف معنى الربيع والخريف، بل، هل عرفت الشتاء مرةً على الأقل؟

كان يسألني فيما كنتُ أحاول التملص من جغرافية الحوار، أحببت أن أصفَ له طقساً يستعصي على الوصف، لكنه تمكن من إقناعي بصديق له غادر إلى بلادنا من أجل حضور 54 درجة من الشمس، نكاية بشمس صغيرة باردة تزورهم في عبور نادر في صيف خجول.

قلت له: هل تعرف الشمس؟

فصعقني بضحكته المجللة: الشمس يا صديقي، تعال أخبرك عن هندسة الفصول قبل النهار والليل.

هنا ستشعر بأن ثمة طبيعة تعيد تشكيل المكان كلما عنَّ لها ذلك.

٭ ٭ ٭

الآن،

كلما نهضتَ في الصباح يحتضنك الأخضر بضحكته البهيجة، مندلعة على أغصان لا نهائية، تبدأ من حديقة الدار ولا تقف عند حدود، حيث ما نسميه عندنا «دَرز العود» مجازاً، ستلمسه هنا لمس العين واليد والحواس كلها، كلما أحسنتَ إيقاظ هذه الحواس المعطلة. الآن، ستسمع قهقهة الأخضر في كل صباح وهو يتقافز بين الأغصان، والأشجار، والحدائق، والغابات، ودفاتر الأطفال، وقمصان النساء، وزنود الشباب المفتولة العارية، وهم يذرعون الشوارع في طريقهم إلى بهجة العمل.

الآن،

حيّ على العمل، في الطقس الوسيط بين غبار الخطوات الصغيرة في الطريق الطويل، وسديم السهرات الباذخة في نهايات الأسبوع وبدايات الحلم. الآن، لا معنى للكائن من غير أحلام تضعه في مهبّ الكون.

تسمعها في كل مكان، الموسيقى التي ابتكر الألمان ثلثيّ مبدعيها في العالم، لكي يسهموا في إقناع الآلهة بأن ثمة من يقدر على الخلق سواها، فلا غضاضة إذا أحنت السماء عنقها الأزرق الشاهق لكي تصغي لأكثر أجراس الطبيعة قدرة على الرسم في قلوب البشر، حب السلام والحرية والجمال، فما الذي كانت تسعى إليه الآلهة أكثر من هذا الأقانيم لكي تكون آلهة؟

رحبة رحمة السماء وهي تثمّن جهد الألمان وهم يصقلون موهبة الناس بأكثر فنون الإنسان تجريداً، لكي يؤكدوا للحياة إمكانية الحوار بأكثر اللغات جمالاً وشمولاً وحميمية لفرط تجريديتها. السماء أيضاً كانت تصدر عن التجريد العظيم وهي تقول للبشر: الله محبة.

شاعر بحريني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي