ما وراء الرواية في «السقائف الزرق» للعراقية كوليزار أنور

2022-08-04

فاضل عبود التميمي

صدرت عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق 2022 رواية «السقائف الزرق» للعراقيّة كليزار أنور، وهي الثالثة في سلسلة إبداعها الروائيّ، و«السقائف الزرق» عنوان يحيل إلى كناية مكانيّة اتصفت بها سطوح مدينة العماديّة في كردستان العراق، التي اشتقّ اسمها من اسم مؤسّسها الأول عماد الدين زنكي، فقد امتلكت تلك الأرض جمال الطبيعة، ونسقا جاذبا للنظر، وهي في الأصل مدينة حفر الإنسان القديم أسسها الأولى قبل أن تكون عاصمة للدولة الأتابكية.

أمّا ما وراء الرواية فمصطلح غربي (Almayita fakashun) تحدثت عنه الناقدة الإنكليزيّة باتريشا ووه في كتابها «الميتافكشن: المتخيّل السردي الواعي بذاته: النظرية والتطبيق) ترجمة السيد إمام الصادر عن دار شهريار البصرة: 2018، بما يفيد بأنه الكتابة التخييلية التي تلفت النظر إلى ما حول العلاقة بين المتخيل والواقع، بوصفها نزعة تجريبيّة داخل النص الروائي مجلوبة من خارج النص، و(الميتافكشن) حسب رؤية الناقدة ليس جنسا فرعيّا للرواية، بقدر ما هو نزعة داخل الرواية نفسها تشتغل من خلال تضخيم التوترات، والتعارضات الكامنة في نصّها ضمن فعّاليّة الإطار وكسره، والتقانة، والتقانة المضادة، وبناء الوهم وتفكيكه، وهذه النزعة ترفض صورة المؤلف التقليديّة بوصفها ابتداعا متعاليا للخيال، لكنّها في الوقت نفسه تظهر الكيفيّة التي يستجلي بها مفهوم التخييل من خلال بناء الوهم وكسره، ففي روايات (الميتافكشن) -عند الناقدة – تتراوح حيل التأطير بوصفها أبنية سرد داخل قصص، وشخصيّات تقرأ عن حيواتها المتخيّلة، ومخطوطات، وعوالم تستهلك ذاتها، ومواقف متناقضة، و(الميتافكشن) الذي ينتمي إلى سرديّات ما بعد الحداثة يُعنى بلغة التناقض التي تحلّ في نهايات الروايات عادة، فضلا عن عنايته بالتبديل، والدائرة المقصّرة، والعشوائيّة والإفراط.

وجود المخطوطة في رواية «السقائف الزرق» أعطى أهميّة سرديّة تحيل على مخطوطة الرواية نفسها، وهو دليل على رغبة الروائية في تحديث كتابتها سعيا إلى الاندماج مع نصوص أخرى، فضلا عن أنه في الرواية وظّف الكتابة للانفتاح على قضايا فكريّة، وثقافيّة تعلّقت بتأريخ مدينة العماديّة، وموروثها الثقافي الكبير.

انفتحت رواية «السقائف الزرق» على قراءة مخطوطة شغلت نصّ الرواية قدّمتها الساردة (سولاف أحمد آدم إبراهيم) التي تعيش في أمريكا، وقد ورثتها عن أبيها ابن مدينة العمادية العراقيّة الذي هاجر إلى أمريكا وتزوج هناك منذ زمن بعيد، فقد ورث عن أبيه تلك المخطوطة المكتوبة باللغة العربيّة، وبدوره أورثها إلى ابنته (سولاف) التي تعلّقت بمضمونها، وفيها رغبة لأن تكمل تعليمها العالي في قسم الدراسات الشرقية تخصص اللغة العربية في جامعة (إلينوي) الأمريكية طمعا في ترجمتها إلى الإنكليزية لتكون جسرا يمتد بين ثقافتين، وزمنين في محاولة منها لربط ماضي المدينة بحاضر الحياة، وقد تحقّق لها ذلك حين نالت الماجستير بعد دراسة تلك المخطوطة بتقدير امتياز.

كُتبت المخطوطة في دفتر كبير يشبه السجل ذي غلاف أزرق، ولون حبريّ غامق انفتح على ثلاثة فصول، كلّ فصل مكتوب بخط مختلف، ورؤية مغايرة، احتفظ به الجدّ بوصفه مخطوطة وصف لمدينة العماديّة، وفي ذهنه أنها مخطوطة العمر التي كتبت بعيدا عن المؤثرات السياسية والاجتماعيّة، برؤى ثقافية اشتملت على سرد الأحداث المخزونة في ذاكرة ثلاثة من رجال العمادية، وثّقوا ما كان مشفّها ربط حياة المسلمين واليهود والمسيحيين في تلك المدينة المكتنزة بالجمال، والتقاليد الأصيلة؛ بمعنى أن الكتابة كانت من نصيب الذاكرة وحسب، فقد اعتمد الثلاثة على خاصية التذكّر طريقا إلى التوثيق في محاولة منهم لخلق المدينة ثانية بشكل أجمل، بعد إحساسهم بأن ثمّة إشكالية كبرى ستحلّ بهم والمدينة في مقبل السنوات، دون أن يعتمدوا على وثائق وإحالات أخرى، والذاكرة وحدها – كما هو معروف – لا تفي بالغرض، لأنها كائن مجازي خؤون في أحيان كثيرة، فلا بدّ من وجود مصادر أخرى للسرد، وهذا ما يدركه متلقي الرواية، حين يكتشف مصادر أخرى أعانت كتّاب المخطوطة على جمع أكبر عدد من الحكايات، والمعلومات التي تتصل بوضع العمادية الثقافي، منها كتب التأريخ التي تتحدث عن العمادية، وما رواه كبار السن والجدات والأمهات.

كان الجزء الأول من المخطوطة من نصيب جدّ الساردة (أحمد) الذي قال إن مهمّة الكتابة عن العمادية صعبة بلا شك، حاول من خلالها أن يجرّ تأريخا أطول من عمره، فقد بدأ الكتابة في شهر أيلول/سبتمبر 1947 بالحديث عن نفسه، وثقافة أسرته ودراسته، وثقافة المسلمين في المدينة، وموروثها وجغرافيتها، وعن الشعر الكردي، وعلاقة العمادية بمدينة الموصل، وبشيء من التفصيل تحدّث عن تأريخ المدينة، بدءا من وجود عماد الدين زنكي، وإمارة البهدنانيين الذين وصفتهم المخطوطة بالعباسيين، وصولا إلى الاحتلال البريطاني 1918، ثم الحكم الوطني 1923 ليقف عند أسماء المحلات والأكلات، وكأنه آخر من سيروي عن تأريخ العماديّة الجميلة، منهيا الفصل بتقرير حقيقة أن كتابة المخطوطة نقطة تحوّل في حياته، وقد انتهى من تدبيجها في آذار/مارس 1948.

وكان الجزء الثاني من المخطوطة من نصيب اليهودي (عزرا) ابن العمادية الذي ولد عام 1920، بدأ الكتابة في شهر سبتمبر 1947 وهو لا يدري كيف يكتب عن مدينته، ومن أيّ نقطة يبدأ؟ وهل سيكون باستطاعته أن يفي المدينة حقها؟ باحثا في سبب تسميتها، وثقافة مجتمعها، وكان ثمّة حديث عن جدّه (هوجة) وعمّه (ياقوت) وأمّه (أديرة) ومهنته التعليميّة، مارا على تأريخه الشخصي، وتأريخ عائلته وتجارتهم، وأهل ديانته، وتراثهم الشعبي، لينتهي جزء المخطوطة الخاص بعزرا بخبر قرار يهود العماديّة الهجرة إلى إسرائيل، مذيلا بانتهاء الكتابة في شباط/فبراير 1948.

أمّا الجزء الثالث والأخير من المخطوطة فقد كتبه المسيحي (متي) في بداية تشرين الثاني/نوفمبر 1947عن العماديّة شجرة ذكرياته تلك التي ما أن يهزها حتى تتساقط اللآلئ على الورق، منها تعلّم حروف السرد ومن أمه، وفي هذا الجزء حديث عن العائلة وجدّها جرجيس، والعلاقة مع الموصل، والمنحوتات الآشوريّة، وصخرة العماديّة وكنائسها، وصناعة الأواني، والحياة الاجتماعية التي ربطت الديانات الثلاثة، وهجرة اليهود، وانفراط زوايا المثلث التي قامت عليه مدينة العمادية، لتتفكّك أضلاعه، وقد انتهى من كتابته في مارس 1948.

إن حاصل جمع كتابة المسلم الكردي، واليهودي، والمسيحي شكّل نصّ المخطوطة المتكامل الذي كان الجدّ (أحمد) جامع نصّها عابرا الأنواع الأدبيّة نحو السيرة والتأريخ، واليوميات، والأنثروبولوجيا، والأمكنة والازمنة، والاسترجاعات، تلك التي تظهر كلّها في نصوص المخطوطة بوصفها نصّ شعب محبّ للحياة عاش زمنا ليس بالقليل في ظلّ تفاهم حياتي يصعب وجوده الآن.

بعد أن اكتملت المخطوطة احتفظ بها الجدّ (أحمد) وهو يرى أنها كتبت بصدق من وحي القلوب، وغاية الثلاثة حفظ تراث المدينة المتآخية، ومحاولة إيصاله إلى الآخرين، والمخطوطة في حقيقة وضعها تحكي قصّة المدينة، وكفاحها على مرّ الزمن، وما ميّزها عن المدن العراقيّة الأخرى. ترى بم تختلف مخطوطة «السقائف الزرق» عن غيرها من المخطوطات؟ إن قراءة متن الرواية يحيل على أن مؤلّف المخطوطة لم يكن مجهولا، فقد تعاون ثلاثة من أهل العماديّة على كتابة مضمونها سردا، والبوح بما رغبوا، ومّما هو جدير بالملاحظة أن الساردة لم تعثر على المخطوطة مصادفة، أو وجدتها في ظلّ متاهة سرد أخذتها نحو اكتشافها، ولم تسهم الطبيعة في العثور عليها، أو تلقيها عن طريق الحلم، أو الحيوانات، أو التنقيب فقد وصلت إلى يد (سولاف) عن طريق الوراثة، فضلا عن أن مضمون المخطوطة كان ثقافيّا بامتياز فقد جمع ثقافة المجتمع في العماديّة، وطرائق الاتصال بها، وكشف عن التمثّلات الثقافية التي لها صلة بتصورات الإنسان في تلك المدينة، ومواقفه من الحياة، وحركة المجتمع، وما أنتج من إجراءات وتقاليد وأعراف باتت في حساب الثقافة اليوم فرصة للقراءة والتحليل، والتفكيك الذي يضعها تحت سقف القراءة الثقافيّة؛ تلك التي تبحث عن الرؤى المبثوثة في تضاعيف النصوص والمظاهر الاجتماعية.

إن رواية «السقائف الزرق» ثقافية بامتياز لارتباطها بعادات مدينة العمادية، وأفكار أهلها، وسلوكيات المجتمع المتعدد الأعراق، ومن يقرأ نصّها يجد سردا يحيل على جماعات لها سرودها الخاصة، التي تشكّلت في المكان الجامع لثقافات فرعية مختلفة، لكنّها في النهاية تشكل ثقافة واحدة تنتمي إلى مجتمع العماديّة الكبير وحسب، فهي ثقافة مدينة كان لها تأريخ، وكانت على سعة في الجغرافية، والمكان ينتمي إليها سكان مختلفون في دياناتهم، لكنّهم يحترمون الآخر في ديانته، وشعوره، ولغته بلا خصومات، وإشكالات تصل إلى حدّ الفرقة، لقد وحّد المكان بجغرافيته الجبلية، وغاباته الساحرة المشتركات الكبرى، ووضع الخصوصيات في سقف الاعتراف، والاحترام المتبادل.

أكاديمي وناقد من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي