«حزن في قلبي» لهلال شومان: حرب 1975 ما زالت تنجب وتلد!

2022-07-28

حسن داوود

لا نساء في رواية هلال شومان الجديدة. في قسمها الأول، الذي تجري وقائعه في ألمانيا، لا أثر لهنّ في حياة يوسف، لا في منزله ولا في المقهى الذي يتردّد إليه ولا في الملاهي الليلية التي يرتادها. رجال فقط، الأقرب إليه منهم آزو، ثم عمرو، ويأتي تاليا أدريان، معالجه النفسي. لا وجود للنساء في الرواية، لأنه لا حاجة للرجال فيها إليهن. وكما هو الحال في قسم الرواية الأول، الألماني، هو كذلك في القسم الثاني، ذاك الذي يجري في بيروت، وقد انتقل يوسف إليها.

بين الأسماء الكثيرة التي انخرط مسرعا في جوّها، نقرأ اسم جان وجوليان وفرّان وجميل وإيلي نصار وجورج، هذا الأخير الذي تحوّل إلى امرأة بعد ماض رجولي صاخب. بين هؤلاء لا اسم أنثوي إلا لندى، التي لا يحدث وجودها فرقا على أي حال، لا في مسار الرواية ولا في حضورها الأنثوي. رجال فقط، هنا وهناك. وهذا يطال الماضي أيضا، حيث مَن قدِم يوسف إلى بيروت ليستذكر ماضيهم هم رفاق أبيه، ذي الشخصية العميقة الغور، أما أمه، مطلّقة أبيه فبلا ميزة خاصة، مثلها مثل ندى، فتاة بيروت.

لا حاجة بهم للنساء إذ أن رغباتهم وميولهم لا تذهب بهم إلا لمن يماثلهم. ربما أطنبت الرواية في وصف العلاقات المثلية التي تقوم بينهم، حتى ليبدو تكرار وصف مجامعاتهم مادة الرواية الأولى. تلك جرأة في وصف حياة المثليين لم تُبلغ، أو لم يُبلغ حتى بعضها القليل في الكتابة الروائية العربية. وإذ يبدو أن لدى الرواية أشياء أخرى لتقولها، نفكّر أن ذاك الإيغال في التنويع على المشهد الجنسي (المثلي) والإغراق فيه هو أرضية ستجري فوقها مشكلات إنسانية وعقد متدخلة كادت تذهب بالرواية مذاهب شتى بينها التاريخي بيروت الأخيرة.

يوسف ابن متبنّى في ظروف غامضة. منذ بداية الرواية نقرأه واضعا اسم أبيه بين مزدوجين. هو «أبي» ذاك الجالس على أرجوحته في حديقة البيت، وإلى جانبه قنينة العرق وصحن الكبّة النيئة، وهما الأكثر تعبيرا عن لبنانية مشتهاة ومفقودة. لكن، رغم التعلّق بذاك الأصل، لا يمانع الأب في أن يكون لابنه المتبنّى عشيق من جنسه. فها هو يستقبل ذاك الضيف بترحاب يبدو مفاجئا على الدوام، ما يدلّ إلى أن هناك حياة سبقت لذلك الرجل كانت من الكثافة بحيث يكون كل جديد مقبولا. ولا يلبث أن يموت ذاك الأب، تاركا وصيته الغريبة بأن يَحمل ابنُه رمادَه إلى لبنان لينثره في سبعة من مواقعه.

«حزن في قلبي» رواية مثقلة بالقضايا التي تحملها، وهي ليمكنها التعامل مع أثقالها تلك، كان عليها أن تكون شديدة الدقة والإيجاز، في وصف ما يقع في سياقها.

وهذه الوصية تلتقي مع رغبة يوسف في أن يعرف مكان ولادته ومن هما أبواه الحقيقيان. من لحظة وصوله إلى بيروت نرى كيف سيكون على الرواية أن تحمل على عاتقها مسائل كثيرة، الأكثر أهمية من بينها هو أن تُنقل صورة عن حاضرها بالترافق مع ماضي حربها السابقة في 1975. فهنا، في القسم البيروتي أو اللبناني من الرواية، سيكون على يوسف أن يفاجأ بخروج كل شيء عن نظامه المفترض: السيارات كيف تصنع خرائط سيرها الخاصة، والأبنية كيف يختلط قديمها بجديدها، والبشر المفتقدون للعمق الشخصي، إذ لا يبدو أن أيا منهم يعاني ما يعانيه صديقا يوسف الألمانيان (رغم أن أحدهما كردي والآخر مصري) في بحثه عن هويته ومعناه.

شبّان بيروت الجدد، أو رجالها الجدد، يدون في الرواية كما لو أنهم أخطاء صنعها رجال الجيل السابق على وجودهم. وبمجرد ما يصل يوسف إلى مطار بيروت يجري استقباله من أحد الرجال الثلاثة الذين كانوا رفاق أبيه. إيلي نصّار الوزير، أرسل سائقه جميل لملاقاة الوافد إلى المدينة. ومن هناك، فيما سيكون على يوسف أن يعيش حاضر بيروت، ويتنقل في الوقت نفسه بين مناطق لبنان، ستتحوّل الرواية عن سياقها الوصفي العادي لتصير أقرب إلى البوليسية. فجميل، وهو من جيل الحرب السابقة، لم يعد سائقا حسب، وجورج لم يعد رجلا، حيث صارالمتكلمون في الرواية يضيفون عبارات التأنيث كلما جاؤوا على ذكره (جاءت جورج، جورج غادرت الغرفة) أما ما ينكشف من سيرة والد يوسف، أو متبنّيه، فتكشف عن رجل مليء بالألغاز، مخالف كليا لصوره الأخيرة جالسا على أرجوحته منشغلا بشرب العرق وأكل اللحمة النيئة.

وماضي هؤلاء ينبغي عدم كشفه، حسبما تقول الرواية التي عصفت بمصائرهم. هم أبطال الماضي المقاتلون والملعونون، الطيبون والأشرار في وقت معا. في أحيان يخيّل للقارئ أنهم هم أبطال الرواية التي، فيما هي تقفل صفحاتها الأخيرة، تبقيهم غامضين، فيما هي تُرجع يوسف، بطلها، إلى سابق عهده الألماني، عاشقا لآزو الكردي. أما اهتداؤه إلى أمه فاقتضى تعقيدا إضافيا في المسار المغامراتي للرواية لنصل في النهاية إلى تلك الأم الضريرة القابعة في ذلك البيت الغريب.

«حزن في قلبي» رواية مثقلة بالقضايا التي تحملها، وهي ليمكنها التعامل مع أثقالها تلك، كان عليها أن تكون شديدة الدقة والإيجاز، في وصف ما يقع في سياقها. هكذا أمكن لها، في تناولها لبيروت، أن تتنقل بكفاءة ومرونة بين زمنيها اللذين نحار في تسميتهما، هل هما حرب، أمّ حروب، هل إنها الفوضى الكاملة تظهر مرة على شكل ومرة على شكل آخر؟

رواية هلال شومان «حزن في قلبي» صدرت عن دار «خان الجنوب» في برلين. عدد الصفحات 238 أما تاريخ الصدور فسنة 2022

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي