حينَ رسمتُ الجواهري

2022-07-27

علي صلاح بلداوي

لأنَّ شرودَه المفاجئ كان أشبه بالوحي نازلًا عليه، مقدَّسًا ولا يمكن تنبيهه، كان على كلِّ شيءٍ أن يكون صامتًا.

هل هو الوحيُ حقًّا! جاء ببيتٍ ليكملَ قصيدةً لم تكتمل، أو ليُلقي عليه صورةً لم تخطر على بال شاعرٍ في احتضاره بين الحبر ومزق الورق كي يبلّغها للناس مدهوشين بين يديه، هل هي "حيّيتُ سفحكِ عن بُعدٍ" أم "لقد أسرى بيَ الأَجلُ... وطُولُ مَسيرةٍ مَلَلُ".

لا أدري، كان يغور في وجودٍ آخر صاعدًا حافلات الزمان ونازلًا عند مفترقٍ هو الغريب فيه، تظلّله الكلمات ويأوي إلى فكرةٍ ستصير شعرًا يخفي به لواعجه عن أعينٍ تراقبه. نحيلٌ ومتعب، يحمل رأسه على كفّه ويكاد يختفي في بذلته الأنيقة، لولا أنَّ طاقيَّته تقول: إنَّه هنا.

ما الذي سأحتاجه لكي أرسم شاعرًا في غفلةٍ منه، أجمّد الوجود ووحدي أكون حرًّا في تأمِّله قبل أن يلتفت، أم أكون مخفيًّا عن رقيبٍ يُربك حركتي كما لو أنَّني في مرسمي الصغير، لا عابرين ولا فضوليِّين ولا نادلً يسألني: هل تطلب خدمةً أُخرى؟ كما لو أنَّ الخطأ لو حدثَ سيكون مغفورًا وسهلًا تلافيه، لكن ماذا لو حدثَ في محضرٍ منه وسهوت مُحرجًا من نظرته، أو خائفًا من عيونٍ تتسلَّل إلى عزلةٍ مفترَضةٍ مقدارها سكون يطغي عليه، ورحلةٍ قد يدقُّ جرسَ نهايتها في حَجْلٍ صعبٍ تَتَبُّعه في الزحمة، نائيًا عن غرباء أسمعهم من خلفي يقولون: إنَّه يرسم الشِّعر، إنَّه يرسمه.

تحت عينيهِ بلادٌ وزمانٌ لها من التلوين لوعةٌ سوداء

أبدأ من حيث نظرته البعيدة في البعيد، من تحديقةٍ وديعةٍ يودّع بها العالم كلّه في رحلة لا عودة منها، آسفًا وحزينًا ويائسًا منه، متَّكئًا على مسندٍ وتكاد أصابعه تنغرز في خدّه الطّري، ملامحه البحرُ ساكنًا والجوفُ مجهولة صراعاته، أمواجه تروح وتجيء وفي سرِّه المجرّات. ألوّن شعره فضيًّا لامعًا، ولا أكاد أحصي شعرًا باهتًا على وجهه لأنه يبدو حليقًا منذ يومين أو أقل. مرَّ عليه وقتٌ ولم يتحرَّك، خائفًا، شاردًا يريد أن يبقى كأنَّه، لا يَبرُح مكانه أبدًا ولا يلتفت لوجودٍ مَلَّهُ. مبتزٌّ أشكُّ فيه، من ألمٍ ربما، وهو الفارغةُ جيوبه مما يُبتزُّ به، موحشاتهُ كثيرةٌ بَدَأْتُ في كلِّ حركةٍ على لوحتي أكشفها، إنَّها تطلع من مساماته وهو يتعرَّق بالألوان رطبةً وسيّالة، فنجانهُ راكدٌ، وكأنَّه في غَيبَتِهِ يحتسي همًّا ويُحصي سِنيه صاعدًا إلى هرمٍ لا عودة منه. تحت عينيهِ بلادٌ وزمانٌ لها من التلوين لوعةٌ سوداء.

همسٌ أسمعُه في أذني" وكلُّ نصيبي منكَ قلبٌ مروَّعُ" أتلفَّت فلا أحد يهمس لي، هل هي الفرشاة تقرأُ أبياتًا خبيئةً تحت جفنٍ تهدَّلَ من فرط حزن وتعب قوافٍ في حِدادٍ أبديٍّ، هل هو الشعر يهمس عنه، هل مسَّني وحيٌ من شروده المجاور!

فلا بدَّ من حلوةٍ في عينيهِ، دمعةً كانت أو برقًا بعيدًا

حسنًا، لأكمل للعاشق العائد إلى زمان هيامه وصبابته خطَّ الحواجب، ولألوّن بعضًا من تفاصيله بالغرام، فلا بدَّ من حلوةٍ في عينيهِ، دمعةً كانت أو برقًا بعيدًا. يمرق أحدهم عابرًا يُدندن على إيقاع فرشاتي "ألا يا حُلوةَ العينين... يا مَنْ حُلْوُها مُرُّ" فيكمل المغنّي في راديو المقهى "ويا مشبوبة الخدَّين... عندي منهما جَمْرُ" وتنطق شِفاه الشاعر في اللوحة "عبدتُ الحبّ والشعرَ... وكلٌّ منهما كُفْرُ".

كيف تنطقُ، أسحرٌ هو أم شيءٌ يشبهه، معجزةٌ ربما، تنتبه لها كلّ الأشياء المتحركة وتتحرَّك لأجلها كلّ الأشياء الساكنة. ألسنٌ لا أدري من يهبُها للمستحيل ممّا يحيط بنا، ألسنٌ للورد في سنادينه والباب والمقاعد والمظلّلات والسجائر وكؤوس الماء وحتى الشام منثورًا على صدر العابرة، ألسنٌ تلتفّ حولي وتنشد بصوتٍ واحدٍ أسمعه مرتجفًا مقشعرًّا. وأحاول جاهدًا أن أضع نقطةً أخيرةً في قصيدة وجهه: "بكَيتُ حتَّى بكا من ليسَ يعرِفُني... ونُحْتُ حتَّى حَكاني طائرٌ غَرِدُ".

أيُّها الّشاعر في صحوهِ وشرودهِ، لوحتك اكتملت فخذها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي