رواية «منّا.. قيامة شتات الصحراء»: سرد وبقايا حكاية

2022-07-25

محمد تحريشي

يطلّ الروائي الصدّيق حاج أحمد بنص سردي جديد موسوم « منّا قيامة شتات الصحراء» عن دار الدواية (2021)؛ ليروي لنا حكاية منسية أو يراد لها أن تنسى في خضم مجموعة من الأحداث المرتبطة للتوارق والأزواد وسكان الساحل وجنوب الصحراء. رواية تحفر في الذاكرة وتستشرف المستقبل وهي تروم الكتابة عن المسكوت عنه، وعن المهمل من الخطاب السياسي والأدبي عن السرد والصحراء؛ لترسم معالم كتابة تسعى إلى النوعي والمتميز، وفي الوقت نفسه إلى تجاوز بعض الكتابات الاحتفالية بالصحراء، على أن الصحراء مكان للاستجمام والسياحة، أكثر من كونها مكانا للحياة وسط تجاذبات جيوسياسية متنوعة ومتباينة، وفي الوقت ذاته تبين كيف أن الرغبة في الحياة ومقاومة الموت قد تكون الدافع للتعلق حتى بالأوهام والأحلام الوردية.

جاء الإهداء حاملا لرسالة قوية «إلى شتات صحراء شمال مالي في ذكرى وجيعة الجفاف» لتجعل الأحداث مترابطة في ما بينها ومتداخلة، وقد تتعلق بمصالح دول وهيئات.

تقوم هذه الرواية على مبدأ المفارقة لتصل إلى العجيب والغريب لتنسج لنا حكاية من الخيال وتسردها لنا بواقعية كبيرة، وقائع وأحداثا، ومن ثم يجد القارئ نفسه أمام وضع جديد لكتابة تروم لنفسها أن تقدم الإضافة لتبغي من وراء ذلك مبدأ التجاوز والمغايرة. لكن يبقى الرهان قائما إلى أي حد استطاعت هذه الرواية أن تؤسس لأدبية ما حول السرد والصحراء؟ وما المقومات الجمالية والفنّية لهذه الرواية؟ هل أن المعول عليه فيها هو السرد أو الحكاية والبناء الدرامي، أو التجربة اللغوية؟ يبدو لي أن الكاتب أراد أن يغامر صوب القيامة ليقدم للقارئ جديدا يتجاوز به نصوصه السابقة، ومن ثم يقدم للقارئ مغامرة جديدة محفوفة بالمخاطر، كونها كتابة مضادة أو معادلة للكتابة عن عالم التوارق والأزواد، في تجارب روائية عربية، مثل كتابات إبراهيم الكوني، على أن الحقيقة لا تملك وجها واحدا، وحتى إن كان الأمر كذلك، فإن تلقي هذه الحقيقة قد يكون متعددا ومتنوعا حسب مستويات التلقي ودرجاته، وحسب الغاية من كل خطاب والهدف من كل توجه فكري أو سياسي أو حتى فني وجمالي. فإلى أي حد استطاعت هذه الرواية أن تجيب عن هذه الانشغالات؟

حكاية «منّا» هي حكاية قوم اضطروا إلى مغادرة موطنهم الأصلي الذي أصابه الجفاف سنة 1973 في هجرة قسرية نحو الشمال إلى جنوب الجزائر منطقة برج باجي مختار وتمنراست، ومن ثم إلى جنوب ليبيا وبعده إلى جنوب طرابلس فجنوب لبنان فالأسر في مخيم أنصار، والعودة إلى ليبيا والمشاركة في حرب تشاد، فالأسر ثانية ثم الخروج من السجن والعودة إلى ليبيا، وتختتم الأحداث في شمال مالي من أجل حلم الوطن الموعود. هي رحلة في الزمن ورحلة في الحلم ورحلة شتات ورحلة ضياع ورحلة أمل، رحلة تلعب فيها الأقدار لعبتها، وتتدخل السياسة لتحدد لها مسارات وخروقات، وتسهم أيضا في ضياع حقوق ومكسب استقرار.

حكاية «منّا» هي حكاية الجدّات للأطفال قبل النوم، وهي قصة يرويها القائد لجنوده، وحكاية السياسي ليغرس الأمل في مستمعيه. حكاية منّا حكاية وطن في الأحلام وأمل شعب في مقاومة الجفاف بكل أنواعه الطبيعي والسياسي والثقافي والاجتماعي والنفسي. حكاية منّا من كل حدب ينسلون. «ها نحن على مرمى حجر من حاسي الخليل؛ يقول بادي.. لم يعد يفصلنا عن برج باجي مختار من هذه النقطة سوى 18 كلم، الناس من كل الجهات قدموا، ولمّا يفعلون.. الوقت عشية، غبار القوافل الوافدة من بعيد، جنوبا وغربا وشرقا، الأرض سلحفاة كما يقال».

فالرحلة في الأساس هي رحلة من الموت طلبا للحياة، لكنها ستتحول إلى رحلة من الحياة طلبا للموت. «ضمن إرسالية بعض الأزواديين، الذين دخلوا معسكرات التدريب لأجل قضية، حلم الوطن الموعود بالأزواد، فإذا بالبكّاي، يجد نفسه يغادرنا مع فيلق المغاوير، لحرب (أوزو) في تشاد سنة 1987. قلت وجه الدّعابة في قول البكّاي لأحد الضباط الليبيين، نحن هنا من أجل استغلال كيدال وتيلمسي ومنكا، من حكومة مالي! بُهت الضابط الأخضر، حتى سقطت قبعته، من على رأسه والله.. بفعل الغرق في بحر العتمة اللغوية، الناجمة عن الإبدال الصوتي السّمج». هناك من ينطق القاف غينا، وهناك من ينطق الغين قافا ومن ها هنا يقع التداخل بين الاستقلال والاستغلال.

تقف الرواية على قنبلة موقوتة ولا تدري ما العمل ولا ترى مفرا من سرد الحكاية وتمر تاركة القارئ في حيرة من أمره من سرد يقوم على تداعي الأفكار وتواردها إلى درجة أنه تحكم في الحوار وجعله يبدو باهتا، وجاءت الحكاية بلسان راو واحد، وحتى الأصوات الأخرى لم تعلن عن نفسها إلا من خلال الراوي المركزي ما جعل الحكاية تعنى بتفاصيل رحلة الوطن الحلم الذي كان يحتاج إلى بعد ميثولوجي وفكري وفلسفي حتى لا يهيم هذا التارقي والأزوادي على وجهه في الصحراء.

إذا كانت الحضارة الإنسانية البدائية تجلت في مراحلها الأولى في هذه المناطق، فالأولى أن تكون الانطلاقة من ها هنا. يبدو أن الرواية عوّلت كثيرا على نضج الوعي لدى الأفراد والجماعات، ومن ثم جعلت النهاية مفتوحة لمأزق الوعي الجمعي بهذا الحراك، «فاماميستي تارقي من ثوار 1963 في كيدالْ، عُرف بقراءة الكفّ والمنام، سُردت له تفاصيل رؤيا بادي في منامه، بَكَم عن الكلام مدة يعبر باطنها.. نطق بالقول أخيرا؛ تفسيرها يا ساداتي يا كرام: وطن أزوادي، لا يزال يتأرجح على سنام إبله، أمام زكاة فرنسا لصرصرة زوابعه، كل التقارير الطبية والنفسية، أفادت صداعه المزمن، ولمّا يعيش مساراته المجهولة!»..

إن انفتاح الرواية على هذا الأفق يجعل القارئ ينتبه إلى أن السرد والصحراء مغامرة كبرى تحتاج إلى تغيير عادات القراءة، وفي حالات معينة قد تحتاج إلى أدوات إجرائية مغايرة كفيلة بالوقوف عند الثابت والمتغير في هذا النوع من الكتابة، وتتطلب هذه الكتابة من الكاتب نفسه تطويع آليات الكتابة لديه حتى يغامر صوب هذه الرمال المتحركة والجبال الثابتة والشعوب المتنقلة في حيز جغرافي قد تنعدم فيه الحياة، وهو طافح بالحياة من خلال تعلق قاطنيه به، «ذكر لي شيخ تارقي، غاية في مُلح البسط والظرافة، ذات مناص للجزائر، بمخيم الإغاثة (برج باجي مختار) أن سلطنة توارق إموشاغ، كان لها مجد الصحراء، أيضا حتى تخوم أدغاغ، ونافسوا إفوغاس بعض الشيء، بل ذهب ذلك الشيخ الطريف إلى القول، إن تضعضع إموشلغ نمكا، وزيادة نفوذ إفوغاس على أدغاغ، بان مع دخول لفرانسيس شمال دولة لا تعترف بحقي ولا أعترف بوجوده على أرضنا، يقال لها؛ مالي».

اشتغلت الرواية على المفارقة في أسماء الشخصيات وبعض العادات اللغوية وتوظيف بعض الكلمات التارقية والحسانية، بل سعت إلى الوقوف عند بعض الممارسات الاجتماعية وبعض الطقوس الخاصة بهذا المجتمع عبر أنساق ثقافية رصدتها هذه الرواية. كنت أفضل أن تنغمس هذه الرواية في هذه التفاصيل للوصول إلى بنية العقل التارقي والأزوادي أكثر من سرد تفاصيل الحكاية، وكان يمكن التعويل على التكثيف اللغوي والاقتصاد في سرد الحكاية. قد يكون للمؤلف مبرراته ومقاصده، وقد تكون طبيعة الحكاية اقتضت هذا البناء؛ لأن المغامرة كبيرة وأفقها أوسع والطموح أكبر والأمل معقود على الروائي الصدّيق حاج أحمد وغيره في فتك كتابة عن سرد الصحراء متميزة ونوعية تحقق أدبية، ما تجعلنا نشعر بالمتعة والجمال والفن، وبالرغبة في التجاوز والقدرة عليه. وتكشف هذه المغامرة أن الكاتب بذل جهودا كبيرة في التوثيق والبحث ورصد المعلومات، وفي الانتقاء والاختيار وفي الحذف والزيادة والتكييف حتى يستقيم عود هذه الرواية.

كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي