حدث في قرية منسية

2022-07-21

هاني بكري

أين ذهبت تلك الصباحات؟ هل كانت وهماً، لا يسكن سوى مخيلته الطفولية البعيدة؟ أين رحلت انكسارات الشمس الصباحية؟ الشمس الصفراء الحانية. لماذا استبدلت بشمس مخنوقة بالعادم والغبار، باهت نورها لا تسر الناظرين؟

تتوسط شمس الظهيرة الحارقة السماء، تدفع «فاطنة» يد الطلمبة المدقوقة في منتصف البيت، يترقرق الماء مندفعا في اتجاه السطل الفخار، تفتح ضلفتي الباب الخشب المعشق بالحديد وتفرغ الماء، فيهبط تراب شمس يوليو القائظة، تهب رائحة الأرض المختلطة بالماء والتراب وتفور حتى الشبع، يتأمل ذرات التراب الصاعدة والهابطة، يسكن الحر برهة، تفك التربيعة من على رأسها وتغمرها في مياه الطلمبة الباردة فتتبدى ضفيرتاها الرماديتان، تحكم ربطهما مرة أخرى مبلولة بالماء.

هذا ليس حرا، لم نره من قبل، هذا جهنم. كانت تقولها كل عام.

تنقع التمر بالماء في الدورق الزجاج الموشى بالزخارف، يعرف حينها أن احتفالية العصاري بدأت.

تنهض زوجه الابن من قيلولتها متثاقلة بفعل الحر والصيام والحمل المتوالي.

تطعم دجاجاتها فوق السطح، وتقطف من شجرة العنب النابتة في بهو الدار، والصاعدة مخترقة السقف، والمظللة أمام غرفتي المقعد بالأعلى. تقطف وريقات العنب، تمسك بالعناقيد المصفرة.. تطعمه إياها:

– أنا صائم.

-العنب لا يفطر، يلتهم العنقود كاملا.

تنزل.. تفترش وسط الدار بالحصير، وتشعل وابور الجاز الوشاش، الذي سيرافقه صوته طويلا، ولاحقا؛ سيبحث عنه، حتى يجده أمام أحد محلات الإنتيكات في شارع المعز، أصفر نحاسيا يتربع كطفل يتيم تائه في الشارع.

اشتراه وحمله كشيء عتيق.

أشعله وتمدد. أغمض عينيه كمن يستمع إلى سيمفونية راقصة.

أطفأته زوجته، هذا الشيء يصيبني بالصداع.. ورائحته لا تطاق.

لا تشعله مرة أخرى. وضعه في دولاب الفضيات… وضع جزءاً من ذاكرة عنيدة تأبي التبدد وأغلق عليها.

مسكينة، لا تملك الوقت، ولا تقبض على الحلم.

يتأمل عناق الحمام وهديله على شخشيخة باب الخزين. تعانق شمس العصيرة الظلال أمام البيت. فتعلوا أبخرة حلل اللحم، والمحشي والرقاق.

تهدهد الأم رضيعتها لتنام، حتى تتفرغ لإفطار الأسرة. يأتي الجد والأب من الخارج، يضع الجد عكازه خلف الباب الخشبي الزيتي الداكن للمندرة.. يفتح الأب التلفزيون، يضبط محول الكهرباء كي ينضبط التردد،، يترقرق صوت النقشبندي، مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، مدفع الإفطار، خشخشة صوت محمد رفعت بالآذان في التسجيل البدائي الوحيد له في الإذاعة.

يرفع الأب إناء الماء إلى فمه الظمآن، يعنفه الجد.

انتظر حتى ينتصف الآذان.

يتهادى صوت سمير غانم،

(فطوطة مخرج انتيكة، اتعلم سينما في أمريكا)

يرشف الجد الشاي، وينظر إلى الشاشة أمامه، «والله مسخرة، هذا شهر عبادة» يقولها كل ليلة.

على عتبات الدار، وتحت القمر المطل من سماء الله العالية، كان يدفس رأسه في حجر «فاطنة» خوفا من عفاريت تطل من شاشة الأبيض والأسود الصغيرة خلفهم، وضعوا للممثلة العجوز أنفا كبيرا مخيفا، لتجسد إحدى شخصيات الجن الأسطورية في ألف ليلة وليلة. سفرنا العربي التراثي الوحيد المفتوح لآخر المدى على أفق الخيال والفلسفة والمغامرة.

تهدهد رأسه الصغير؛ لا تخف؛ لا عفريت سوى بني أدم.

تضحك.

-عفريت؟

هذه ليست عفريت، هذه «زوزو نبيل» ماذا تكون هي بجانب شياطين وعفاريت ظهرت لها قبل أن تدخل الكهرباء القرية، إذا أراد هؤلاء صنع عفاريت فليستشيروها هي، هي وحدها من قابلتهم كثيرا. يهز الجد رأسه مستنكرا حديثها، عن الجن والغيلان، ويحث الابن على الإسراع فالوقت موسم.

تغلق هي التلفزيون، وتلتفت إليه،

بقولك: تعال نرى الدنيا.

الدنيا خاصتها قابعة في الناحية الأخرى من القرية. بعدها بعقدين ونصف العقد وفي الطائرة التي حملته شاقة نصف العالم في اتجاه الشرق الأقصى، الطائرة التي كانت على وشك السقوط، وضع رأسه على شباك المقعد مبتسما، أسأتي التقدير يا امرأة، نهاية العالم لم تكن أبدا في ناحية القرية الأخرى.

تمسك به في يدها وتسير به عبر الدرب الضيق المفضي إلى ميدان القرية، المزين بإضاءات غير اعتيادية في الليل الرمضاني الصيفي الهادئ، يجلسان على دكة حانوت العائلة المزدحم بالزبائن، تنظر إلى ألواح الخشب التي يخرجها الابن من الداخل فارغة من أمتار القماش المباعة، وحركته الدائبة بين المخزن والدكان، تهز رأسها «إن مضى الرزق هكذا حتى آخر الموسم فسننجح هذا العام».

تأمر صبي المحل المقابل بإحضار زجاجتي «كوكاكولا». يشرب زجاجته منتشيا.

بعدها بعمر طويل وفي الحانة البعيدة، في البلاد البعيدة، في كأسه الأخير، كانت قبالته؛

بتسكر يا ابن الكلب؟

ارحلي يا امرأة، لا انتشاء يعادل زجاجتي «كوكا كولا» على ناصية شارع في ليل رمضاني لقرية منسية في عمق الدلتا.

جدتي؛ سأسهر حتى السحور وإذا نمت ايقظيني.

تأمر «رجب» المسحراتي المار صدفة من أمامهم أن يوقظه. وأن يناديه باسمه من تحت الشباك. يقف برهة، ينتبه لمصدر الصوت، يبتسم ويشير صامتا بأصبعه إلى عينيه. يأتي «رجب» يشق سكون الليل بطبلته، تنبح الكلاب وترمح خلفه، يمسح الأحذية نهارا، ويأتي من بطن الدهليز القديم، ليوقظ الناس للصلاة والسحور ليلا.. طويلا أسمر ممتدا كرمح، عاش هادئا ورحل منحنيا على سرير بائس في مستشفى حكومي. باغته السرطان فاستسلم له. تمدد واستراح من غبار الشوارع ورائحة الأحذية والكلاب النابحة. في العاصمة الطاعنة في القبح، وفي إحدى الأمسيات، مد أحدهم يده بكارت تعريف له، فلان، رجل أعمال، ألا يذكرك اسمي بشيء؟ لا أتذكر. أنا ابن رجل أيقظكم يوما للسحور والصلاة، عانقه..عانق زمنا ولى ويأبى التخثر.

في زمن لاحق وفي الحي الهادئ من مدينة مهملة أخرى سخر طفلاه من قارع الطبل الذي يوقظ الناس للصلاة والسحور، ضحكت ابنته، من الذين يوقظهم هذا المغفل؟ الكبار والصغار صاحون حتى مطلع الصباح، قالتها فيما تكايد أخاها الأصغر بهزيمته أمام جهاز البلايستيشن.

في زمن ولى، لم يسهر هو قط حتى مطلع الفجر، لم يستجب لنداء قارع الطبل ولم توقظه هي أبدا.

كاتب وإعلامي مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي