«أما أنا فلأيّ فردوس..» لعادل المعيزي: إعادة تشكيل اليومي

2022-07-18

رياض خليف

تعود كتابة هذه المجموعة إلى بدايات الألفية، في تلك السنوات التي اتسمت ببداية العولمة والحرب على العراق وإسقاط بغداد. وهي تضم قصائد ترتبط بتلك الفترة، تجسد حالة الإحباط والحيرة التي سادت. فهي كتابة للذات الشاعرة وأسئلتها في تلك اللحظة التاريخية. لكن الشّاعر عادل معيزي ينأى بقصائده عن اللغة الصفر، لغة الأحداث ويصنع لغة أخرى تنخر اليومي وتبدده، مقدّما بذلك مجموعة شعرية ثرية لغويّا.

يوميات أم يومي؟

إنّ من شأن كلمة يوميات الواردة على الغلاف أن تثير أسئلتنا وتطلعاتنا لما سيرد في هذا العمل. فهي عتبة مميّزة ومثيرة يضعها الشاعر على غلاف عمله، مختلفا بذلك عن المعتاد من الاستعمالات (شعر/ديوان/مجموعة شعرية/ قصائد) لكن هذه الكلمة لا تجري تماما مثلما عوّدتنا بها النصوص السيرية السردية، أو الشعرية التي تؤرخ لهذه اليوميات باستمرار وتذيلها بتواريخ كتابتها ووقوع أحداثها ويغلب عليها الذاتي… فنحن أمام قصائد غير مؤرّخة بدقة ـ يشير الشاعر إلى فترة كتابتها مجملة. لكن القارئ يظفر برائحة تاريخ عندما يكتشف علاقة هذه اليوميات الشعرية ببعض الأحداث العربية أو الذاتية مثل سقوط بغداد. فالمجموعة كتابة لأحداث وتهويمات وتأملات هذه المرحلة واستعادة لتفاصيلها وقلقها. لكنّ مصطلح يوميات في هذه المجموعة أقرب إلى اليوميّ من مصطلح اليوميّات المرتبطة بالسير الذاتية. فالشاعر يستدعي أشياء الحياة اليومية وشخوصها، ساردا بعض أحداث حياته. فيذكر زوجته الشاعرة وهي توقظه من النوم:

سلمى تهدهدني وتفتح ضفة الشمس الكئيبة

قم حبيبي ضاع نصف اليوم

تسحب شرشفا متكرفسا فأشدّ أطراف الغطاء

لأستزيد هنيهة

فتبدو في هذه المقاطع تفاصيل الحياة اليومية الداخليّة.

سلمى ترتب معطف الكلمات

في هذا الشتاء المكفهر وتحتمي برواية أخرى

لكاتبها المفضل

تنتهي من غسل آنية وتمضي كي تعلّق سترتي

في مشجب مثلي مصاب بالكآبة والرؤى

تكوي قميصي مرة أخرى

لألبسه ويلبسني غدا

إن الشاعر يفتح بيته للقصيدة في هذه النماذج متخذا البيت عالما شعريا، لكن كتابة اليومي لا تقتصر على كتابة الحياة الخاصة وعوالم البيت وأشيائه وشخوصه بل تمتدّ إلى العوالم اليومية الخارجية مثل سؤال الأجر والمادّة، السؤال المزمن للموظفين:

وتسأل الزملاء هل صبوا

وتقصد أجرة الأعوان عن شهر

من العمل الرتيبب ومن عذاب الانتظار

ويكتب الشاعر عن معاناة العمل وعن اختصاصه المهني في قصيدة الإرشيفي:

ادخل مكتبا مترهّلا وأغوص في عدميّة التكرار

بين يدي تذبل ساعتي الأولى

يكتب عادل المعيزي جوانب من حياته في هذا العمل، ولعلّ ذلك يعدّ وجها من وجوه انخراط قصائد المجموعة في الخطاب السيرذاتي واقترابها من عوالم الأنا. لكنه ينخر هذا اليومي ويصنع إنشائيته بما يستدعيه من نصوص وكلمات وما يظهر من تخييل. فلغة الشّاعر تثور على يوميّاته وتطوّح بنا في عوالم مختلفة. فيزدحم اليومي بالأسطوري والتاريخي والدّيني.

نخر اليومي

إن الشاعر بقدر توغله في اليومي واليومياتي/الحميمي والأليف، بقدر ما يطوح بنا في فضاءات الغرابة، صانعا كونه الجمالي الذي يبدو كونا متعدد الأصوات، مكتسبا جمالية إخصاب بالشواهد التي تزرع في سياق جديد، وهي شواهد وتصديرات مختلفة وكثيفة يستدعي فيها أصواتا متنوعة من فلاسفة وأدباء (نيتشة/ غاستون باشلار/ فاسكو بوبا/ بورخيس/أمل دنقل …) ونصوص دينية وأسطورية متعددة. فمنطقة التصدير عند عادل المعيزي ترد مأهولة بالأقوال المتنوّعة التي تؤدي وظائف مختلفة وتثري الأبعاد الدلالية. ولا تقتصر لعبة التناص على هذا المستوى. فالشاعر يستدعي أقوالا مختلفة داخل المتن ممارسا عليها الأسلبة وإعادة الزرع في سياق جديد على غرار حضور القرآن. ففي قصيدة طير لإيلاف الأبابيل توظيف لسورة الفيل واستعمال لمعاجمها:

طير أبابيل تحلق تحتنا

قالوا قديما فوقنا لتعيدنا

من عصفنا المأكول أو لتزيل عنا

ومن الأمثلة أيضا حضور سورة التين في سياق جديد:

والتين والزيتون والبلد الأمين»

ولم يعد بلدا أمينا»

هذه العلاقات التناصية المتعدّدة تشمل النصوص الدينية والأساطير والمأثورات الشعرية، وهو ما يعبر عنه الصوت النقدي الكامن داخل الشاعر، صوت الخطاب الواصف الذي يسجل حضوره في مواقع مختلفة داخل هذا العمل.

«متناصة صور القصيدة مثلما يبدو

مع الشعر الحديث

وربما متناصة مع ما يرتله المرتّل»

وزيادة على هذا التناص يتجه الشاعر إلى تشييد صور ذات مناخات أسطورية، تتسم بغرابة التشكيل، على غرار هذه النماذج:

« دقت ساعة البركان/سيول الرعب تجرف خوفنا»

«غيم تلبد بالأفاعي واحتوى طوفانهم طوفاننا

« تلك الغرانيق العلا…

واللات والعزى وما عبد الرعاة الأولون

من الإلاهات القديمة من مناة أو سواها…»

لعلنا نخلص في هذا المستوى إلى أن كتابة اليومي والسيرذاتي، تتجاوز اللغة اليومية إلى لغة باحثة عن الجمالية، فيتآلف اليومي مع الجمالي والإبداعي مع الديني والمعاصر مع القديم والأسطوري، فالكتابة الشعرية عند عادل المعيزي تعيد تشكيل اليومي وتلوينه.

كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي