«لسع الثلج» لطه خليل: حيث لا علاج للهزائم إلا بالأحلام

2022-07-16

حسن داوود

لم تفِ الحياة بما وعدت الصديقين به. أولهما، إسماعيل الذي لم يكن يعلم أن اختلاف مذهبه عن مذهب هبة، محبوبته، سيؤدّي إلى انفصالهما. العمل السياسي الذي انخرط فيه، وكذلك الكتب التي كان قرأها، جعلاه يظن أن ما هو هناك، في الكتب، هو هنا في الحياة، أو أنه ظنّ، على الأقل، أنهما يصعب أن يكونا مختلفين هكذا مسدودة طريق أولهما أمام طريق ثانيهما. لم يملك إزاء ذلك إلا أن يكرّر الكلام الشائع عن تحكّم الماضي، الذي انقضى منذ ما يزيد عن ألف سنة، بحاضر البشر.

ولا يقتصر ذلك التحكّم على ما قد يردّ به أهل هبة على المتقدم للزواج منها، بل على صعيد آكثر هولا، يمكنه أن يؤدّي إلى حرب وحشية مدمرة. في ذلك الجزء من الرواية، جزء إسماعيل، وصفٌ لمعركة حربية عنيفة بين الجنود، وكان إسماعيل أحدهم يؤدي خدمته الإجبارية، والأخوان المسلمين في حماه. هناك، ولسوء طالعه، وجب على إسماعيل أن يكون قائد المجموعة التي ترابط أمام بيت هبة، بل كان عليه أن يأمر بإطلاق النار على تلك النافذة التي ظهر له خلفها ما ظنّه خيال حبيبته، لم يستطع أن يفعل، بدلا من ذلك أفرغ الطلقات الثلاثين من سلاحه الرشاش على يده، تلك التي انفصلت عن جسمه. وهو أعقب فعلته تلك برحيله في أحد تلك القوارب الهاربة براكبيها من عالمهم الذي ما عادوا يطيقون العيش فيه.

أما الرجل الثاني، بل الأول طالما أن الرواية تبتدىء به وبه تنتهي، فهو يارو. كان يلتقي إسماعيل، الأكبر منه سنا والأوسع تجربة، مجالسا إياه ومستمعا له دون أن يشاركه الاستغراق بشرب العرق حتى السكر والنوم. تبدأ الرواية مع يارو في أحد شوارع دمشق، حيث التقى صدفة بفيليتسيا السويسرية، كان قد التقاها من قبل في إحدى السهرات، وعلق بها وظلّ، بعد عودتها إلى سويسرا يكتب لها، دون دراية بما ينبغي أن يكون عليه التصرف الغرامي، رسائل حبّ لا تكلّ.

كان خارجا من علاقة محبطة مع هيلا الكردية مثله، والأيوبية بما ينسبها إلى جدها الأعلى صلاح الدين، هذا النسب مدعاة لاعتزازها، لكنها مع ذلك لم تتوقف عن قراءة الكتب الماركسية والتشعب في أجنحتها وتياراتها، وقد أُحبطت علاقة يارو بها بسبب السياسة وما تستجره من علاقات شخصية مستجدّة. وعلى أي حال لم يكن حال يارو مختلفا عن حال هيلا لجهة توزعه بين انتماءين أو ثقافتين، فهو بعد اكتسابه وعيا سياسيا تحصّل له من التجارب والكتب، لا يفوته الحنين إلى منشئه القومي. في يفاعته واظب على زيارة ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق، ومخاطبته علّه يسمع منه جوابا.

هناك زمنان كتابيان في رواية طه خليل، ذاك أنها انتقلت من زمن واقعي، بل مغرق في واقعيته، إلى عالم سحري وخرافي، كأن تلك الرحلة إلى جبال كردستان لم تكن إلا حلما اخترق الزمن الأول، وانتهى، كما ينتهي الحلم، باستفاقة يارو بين أحضان فيليتسيا.

وها هو، دون سابق تخطيط، يرى نفسه منضمّا إلى الأنصار الذين يقاتلون في كردستان، منفصلا بذلك عن حياة سياسية واجتماعية حفل بها تاريخه الشخصي في سوريا. في فصول الرواية الأخيرة وصفٌ للرحلة التي أوصلته إلى جبال هاكاري «زهرة جبال كردستان». استغرقت تفاصيل الرحلة إلى تلك الجبال، ومن ثم إلى سلسلة جبال أورامار، ما يقرب من ثلث الكتاب وكلّها تجري في واحد من الفصول الأربعة، حيث تساقط الثلوج لا يتوقف، وحيث تتجمدّ أطراف المجموعة التي ترافقه، رجالا ونساء، إلى حدّ الاضطرار إلى قطع بعضها. لكن دائما، وبالترافق مع قسوتها، لا يغيب احتفاله بتلك الطبيعة، مكانا مكانا، وإسما إسما. كأننا، في ما نقرأ نتابع تفاصيل تلك الرحلة، نشعر بالوقع العميق لأسماء الجبال وهو يتركّز في وجدان يارو، العائد بقوة إلى كرديتّه. الأسماء المحمّلة بوقعها وحده، دون حاجة إلى ذكر ما حفل به تاريخ كل من هذه الأمكنة.

وفي هذا الامتداد المكاني المهدَّد من رجال البشمركة في الجنوب، أولئك الذين انضموا إلى القوات التركية بسبب الخوف والسعي للأمان، والهجومات التي يقوم بها الأتراك، «أحفاد سلجوق» كما يطلق عليهم الكاتب، ليس إلا المدى الشاسع الخالي إلا من قساوة الثلج وامتداده اللامتناهي. ثلوج وجبال وأسماء جبال، هكذا كأننا في زمن ما قبل إشغال الأرض بساكنيها. لا تجري هنا إلا الاقتحامات التي يقوم بها شباب الأنصار، ثم يعودون من بعدها إلى حامياتهم. هذا المكان الأسطوري سيجنّح خيال الكردي يارو، كما خيال طه خليل، كاتب الرواية، حيث فجأة، يبدأ شبح صلاح الدين الأيوبي بالظهور، رجلا كبيرا وقديما. في مخاطباته ليارو يقول، إنه الأكثر معرفة بهذه الجبال، والعارف بما قد يحدث وما لن يحدث فيها. في ظهوره الثاني بدا مقطوع الساق، إثر مواجهة خاضها، لكن على جذع الشجرة الذي انتزعه ليجعل منه ساقا أخرى، كانت تنبت فروع يسرع إلى تقصيفها.

هناك زمنان كتابيان في رواية طه خليل، ذاك أنها انتقلت من زمن واقعي، بل مغرق في واقعيته، إلى عالم سحري وخرافي، كأن تلك الرحلة إلى جبال كردستان لم تكن إلا حلما اخترق الزمن الأول، وانتهى، كما ينتهي الحلم، باستفاقة يارو بين أحضان فيليتسيا. ثم، لمزيد من إرجاع الحياة إلى واقعيتها، يقرّر يارو أن يهاجر بصحبة فيليتسيا إلى بلدها، حيث لم تعد الحياة ممكنة في هذه البلاد. سأعيش هناك معك يا فيليتسيا، قال لها مستعيدا ما فعله إسماعيل، صديقه وسابقه الهارب من وجعه وخيباته.

رواية طه خليل «لسع الثلج» صدرت عن دار نفرتيتي في القاهرة في 200 صفحة ـ 2022

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي