هل يمكن التداوي بالفلسفة؟

2022-07-08

شارل بيبان ـ أوليفييه بوريول

آن لور جاناك – ترجمة عبدالله الحيمر

هل هناك شيء عند ديكارت أو سبينوزا، لتخفيف معاناتنا وإنقاذها من الاضطرار إلى الاستلقاء على أريكة المحللين النفسيين؟ لقد جمعنا بين اثنين من المجاميع الفلسفية والأصدقاء والأضداد بوضوح حول هذه المسألة. من ناحية، أوليفييه بوريول ( فيلسوف وروائي وباحث من مواليد 1971) الذي تعتبر الفلسفة بالنسبة له أداة تدريب يومية يمكن أن تكفي؛ من ناحية أخرى شارل بيبان (فيلسوف وروائي فرنسي من مواليد 1973) مقتنع بالقوة الفائقة للتحليل النفسي في مواجهة سوء المعاملة.

بما أن المفكرين العظماء خالدون، لماذا لا يعبرون عتبة عيادة فرويد الخالدة؟ هذا ما يتخيله شارل بيبان في مؤلفه الجديد. عن أفلاطون، كانط، سارتر لتقديم العصاب على النحو الذي يقدم الكثير من المفاتيح لفهم شخصياتهم، وخصوصا فلسفاتهم. هل كان كانط قد وقع انتقاداته الأخلاقية إذا لم تمت والدته بالطريقة التي ماتت بها؟ هل كان سارتر يتشبث بمفهوم الحرية لو لم يكن هذا الطفل المعشوق؟

أوليفييه بوريول :حسب خبرتك، هل يمكن أن نتداوى بالفلسفة؟

شارل بيبان: لن أنصح أبدا أي شخص يعاني من اضطراب ما من البحث في الكتب من أجل الشفاء العاجل، حتى إنني أعتقد أنه يمكن أن يكون أمراً خطيراً: دعوة شخص مكتئب، بل انفصامي بدرجة أكبر، لقراءة الفلاسفة، هي المخاطرة الأسوأ بعينها. أنا لا أقول إن الفلسفة لا تشفي شيئا، بل على العكس: أعتقد أنها تشفي الغباء والأحكام المسبقة وعدم الدقة… لكنها تلاعب بالكلمات والمفاهيم. ما يزعجني، هو هذا الجنون الحالي للفلسفة، الذي يُنظر إليه على أنه علاج والذي يشير إلى أنه يمكن أن يحل محل التحليل النفسي.

أوليفييه بوريول: أتفق تماما معك، الفلسفة ليست مجموعة من النصائح العملية والعلاجية. ببساطة، سأميز بين نوعين من الأمراض.. تلك التي تدخل في الطب الحقيقي، والحوادث التي تحدث لنا. وتلك التي يمكن تسميتها ميتافيزيقية، والتي يتأثر بها الجميع عندما يولدون. هؤلاء، يمكنهم للفلسفة علاجهم. على سبيل المثال، ما يشغل بال الرواقيين والأبيقوريين هو كيف يمكن العثور على السعادة، عندما يمكن للجسد أن يعاني والموت هو المصطلح المشترك بين البشر. وبالمثل، تعالج «طريقة» ديكارت المعاناة التي يمكن أن تنشأ من التباين بين الطبيعة اللانهائية لإرادتنا – يمكننا أن نريد كل شيء – والطبيعة المحدودة لقواتنا – لا يمكننا فعل كل شيء.

شارل بيبان :أنا لا أوافق. من المؤكد أن هذه «الأمراض الميتافيزيقية» التي تتحدث عنها تؤثر في الجميع، لكن من يدركونها يصبحون فلاسفة. ثم هذه العموميات! النقطة المهمة هي أنه، في التجربة، هناك أشخاص لديهم علاقة سيئة مع حالتهم البشرية لدرجة أنهم سئموا منها، ومرضهم لا يعالج بالفلسفة. في حالتهم، فإن علم النفس والتحليل النفسي أكثر ملاءمة لحالتهم المرضية ….

أوليفييه بوريول :أعتقد أن الفلسفة هي العلاج من حيث أنها تظهر أن ما قد يميل المرء إلى التفكير فيه على أنه مرض ليس كذلك. يقول الفيلسوف لمن يظن أنه يعاني من خوف شديد من الموت: «لا، إنه ليس مرضا، إنه حالة بشرية». إنها شفاء من خوف الموت. يذهب إبيقور إلى أبعد من ذلك ليقدم لها وصفات للتغلب عليها: «عندما تكون هناك، (الموت، ملاحظة) ليست هناك بعد، عندما تكون هناك، لم تعد هناك. يتابع سبينوزا: الموت يأتي دائما من الخارج، فهو ليس جزءا من جوهرنا، لذلك لا يوجد شيء للتفكير فيه ولا سبب للخوف منه. بعبارة أخرى، أعتقد أنه إذا كانت الفلسفة علاجية، فهي من حيث أنها تجعل من الممكن توضيح مفهوم المرض ومحاولة منع «المرض» المتأصل في عجزنا الميتافيزيقي.

شارل بيبان :في هذه الحالة، ستكون الفلسفة موجودة حتى لا تمر بجانب المرض، إلا أنه عندما يتم تجاوز هذه المرحلة، فإن الشخص الذي يخاف الموت لدرجة أنه عاجز عن إيقافه، إذا أعطيناه فلسفة أبيقور، أو سبينوزا ليقرأها، فلن نعطيه شيئا ينفعه في تأجيل مفهوم الموت بالنسبة له.

أوليفييه بوريول :ماذا نعطيه إذن؟ أدوية؟

شارل بيبان : لا، نحن نطلب منه أن يفهم صيرورة الموت، على مدار سنوات عديدة من العمل، ما يعنيه الموت بالنسبة له، وله وحده فقط. هذا يدخل في مجال علم التحليل النفسي.

أوليفييه بوريول : لنفترض أنها تعمل. حالما يتم حل «انسداده» يبقى كل شيء يجب القيام به: تظل الحياة صعبة. هذا هو المكان الذي يتعارض فيه التحليل النفسي والفلسفة: الأول يدعونا إلى العودة إلى الماضي الذي سيكون مسألة شفاء، والثاني يتدخل لفتح مستقبل لنا من خلال «تكوين» أنفسنا. يمكن للجميع تنظيم أنفسهم بفضل الاجتماع مع الفلاسفة، الأحياء أو الأموات. علمني ديكارت، أنه لا يمكنك معرفة كل شيء قبل أن تتصرف، ومعه تمكنت من فهم حدودي وتحريك كل ما هو أفضل إلى العمل. علمتني المواعدة مع الفيلسوف ألان باديو، كيف أكون في جهد التوافق بين الفعل والفكر. في العديد من الظروف التي اضطررت فيها للدفاع عن مواقف اعتقدت أنها صحيحة، ساعدني وجود هذا الصديق إلى جنبي دائما. كنت أقرأ عن السلطة، وشعرت بأنني أستطيع التعامل مع كل المواقف.

شارل بيبان: هل ساعدتك فلسفة ألان باديو في وقت الألم الشديد؟

أوليفييه بوريول: لكن ما هو الألم الشديد؟ فقدان من تحب؟ مرضه؟ لا الفلاسفة ولا أحد يستطيع فعل أي شيء حيال ذلك. وإلا تذكر نفسك أن هذا جزء من الحياة وعليك أن تعيشه بمفردك. إذا كان لديك إصبع عالق في الباب، فلن تفيدك الفلسفة. لأنك في هذه الحالة، كما لو كنت في قاع الماء مع وجود قصبة في فمك لتتنفس: لا تفكر في شيء سوى البقاء على قيد الحياة.

شارل بيبان: لست متأكدا. التفت إلى الفلسفة في وقت كانت فيه أصابعي عالقة في الكثير من الأبواب. لم تساعدني الفلسفة بمعنى أنها كانت ستوضح مشاكلي، لقد ساعدتني بطريقة أعتبرها مرضية: ألقيت بنفسي في البحث الفكري، لقراءة الكلاسيكيات أثناء الهروب من مشاكلي الحقيقية، وتأجيل الوقت لمواجهتهم. كانت تلك اللحظة بداية التحليل، بعد سنوات عديدة. ساعدتني الفلسفة على تجربة القوة التي امتلكها على الأشياء والناس. أدركت أنه يمكنني السيطرة على حياتي مرة أخرى. وما أعرضه في كتابي هو كيف يهرب أفلاطون، أو كانط مما هما عليه في فلسفتهما. على سبيل المثال، أفلاطون من خلال إحياء فلسفة سقراط فقط، وهذا يقع لي أيضا. بعبارة أخرى، يمكن للفلسفة أن تحبس الفرد في عصابه، وتشجعه على الفرار من هذه اللحظة التي لا مفر منها. في مسيرتي المهنية، حل التحليل النفسي محل الفلسفة، لكنهما كانا منطقين للحقيقة. في الفلسفة، كنت مفعما بالحيوية من خلال الاهتمام بالحقيقي الذي لا يهمني، حق عام، مع تعريفات ومفاهيم … عندما أصبح الاهتمام حقيقة قصتي، أصبح التحليل النفسي هو المرحلة الجديدة. دليل على أنه لا يزال هناك بنوة بين الاثنين.

أوليفييه بوريول هناك دائما أسباب سيئة لممارسة الفلسفة، وصحيح أننا كثيرا ما نقوم بذلك بسبب عدم قدرتنا على العيش. لماذا؟ لأننا نميل إلى الرغبة في فهم كل شيء قبل التصرف، لكن هذا انحراف عن الفلسفة. صحيح ما يقوله بيير هادوت (فيلسوف ومؤرخ فرنسي ولد في عام 1922. آخر عمل نشره: «لا تنس أن تعيش» (ألبين ميشيل 2008)): يجب أن تكون الفلسفة فنا للعيش.

شارل بيبان :لنحدد أن ما يتحدث عنه بيير هادوت Pierre Hadot، بالإشارة إلى الحكمة القديمة، لكن أيضا إلى بعض الحكمة المسيحية، التي لا تمارس بمعدل بضع ساعات في الأسبوع: إنها حياة حكيمة، مكرسة بالكامل لممارسة الفلسفة. ألا يمكن أن يساعد الحضور اليومي للفلسفة على معرفة الذات بشكل أفضل، تماما كما يقترح التحليل النفسي؟

أوليفييه بوريول : إنها تساعدك على فهم ذاتك بطريقة غير مباشرة، ودائما أجوبة الفلسفة غير مباشرة، ولهذا السبب فهي ثقافية و»إنسانية». إنها عن طريق الالتفاف – عند ديكارت، وعن طريق منعطف الاستنتاجات، عند سبينوزا، من خلال التوضيحات أن الفرد سينتهي، ربما، بالحصول على ما يسميه سبينوزا معرفة «النوع الثالث» أي التجربة والشعور بما هو عليه، وعلاقته بالآخرين. إن لحظة التفرد هي فقط نتيجة منعطف طويل للعمل المنهجي..

شارل بيبان :إلا أنه يبدو أنك تقول إن هذه العودة إلى صيغة المفرد هي أكثر من مجرد عودة افتراضية.

أوليفييه بوريول أنا أؤمن بالحلول غير المباشرة. أكثر وقت يتحدث فيه الناس معك هو عندما يتحدث معك شخص ما عن شيء لا يتحدث إليك فقط. فجأة، ستجد نفسك جزءا من كل، في مجتمع من الظروف وتدرك أنك لست الوحيد. أنت تدرك أنك إنسان، وأنك مثل أي شخص آخر.

شارل بيبان: لا أتفق إطلاقا مع الفلسفة عندما تقول لك، بطريقتها العلمية: «أنت لست وحدك». أعتقد أن هذا هو المكان الذي تفشل فيه، إذن ما ينفع من يذهب لمقابلة محلل نفسي، حينما يقول له: «أنت الوحيد الذي يتعايش معه بحياتك».

أوليفييه بوريول: هذه الرغبة في التفرد هي أحد أعراض المرض الجماعي والاجتماعي. قام رينيه جيرارد بتحليل ممتاز لهذه الظاهرة، مشيرا إلى أن العالم الحديث هو عالم يريد فيه الجميع أن يكون فريدا، دون فعل أي شيء. أعتقد أن الحياة أكثر إثارة عندما تنظر إلى الخارج وإلى العام وليس إذا كنت تتوقع كل شيء منك. علاوة على ذلك، فإن قولة «اعرف نفسك بنفسك» لسقراط تقول فقط: اعلم إن المعرفة الحقيقية لا تأتي من الداخل، بل تأتي من الاحتكاك الواعي بالعالم وبالامتلاء بالوجود. إذا كانت هذه المقاربة للفلسفة لا «تعالج» كل شيء، فإنها تعطي طعما جديدا للأشياء، وتزيد من كثافة الحياة. وهو يلغي الأسئلة السيئة والتأكيدات البديلة التي تشبه الشعارات. أفكر على سبيل المثال في تصريح سبينوزا: «لا يحتاج الإنسان إلى كمال الحصان». لا بأس، بداهة، لكن هذه الجملة يمكن أن تصبح دعما حقيقيا، لكن من ناحية أُخرى، هناك سؤال يمكن طرحه، وهو هل نختبر الوجود في ذاته بشكل مباشر، ودون توسُّط من الوعي؟ أم أننا نختبره من خلال الوعي؟ السؤال بصيغة أُخرى: هل وجود الإنسان هو واقع مباشر متحقق من تلقاء ذاته؟ أم أنه معطى من خلال الوعي حيث إننا لا نوجد إلا لأن وعينا يتوسط لكي يمنحنا الشعور الذي نسميه وجودا؟ في الحالة الأخيرة سيكون الوجود الحقيقي، هو الوجود بمعزل عن، أو ما وراء الوعي بذلك الوجود..

شارل بيبان:عندما أستمع إليك، أقول لنفسي إنك محظوظ. أنت تقول إن الفلسفة ساعدتك على أن تكون أفضل في العالم. أنا أيضا اعتقدت أنني مررت بهذا قليلا، ولديّ أيضا «تعريفات» وجدتها عند سارتر وهيغل، ساعدتني على تجاوز معالم معينة. لقد تبين ببساطة أنهما غير كافيين للخطوات التي تلت بعد ذلك. أنا أيضا، ساعدتني الفلسفة على عيش حياة أكثر كثافة، لكن لدرجة أن التحليل النفسي أثبت أنه لا غنى عنه. سألتني الفلسفة أسئلة أصبحت متطرفة، وكان عليّ أن أجد إجابات لها عند المحللين النفسيين، لأنني بصراحة لم أجدها عند الفلاسفة.

أوليفييه بوريول: يتعين عليك إذن، التحدث معي حول هذه الأسئلة.

شارل بيبان: أستطيع، على سبيل المثال، مسألة الإخلاص للذات، والتي أعتقد أن الكثير من الناس يعانون منها، لكننا لا نجد إجابة لها في الفلسفة، بينما نجد إجابات لها عند المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان .

أوليفييه بوريول: يمكنني أن أقتبس نصا كتبه ديكارت، الذي بموجبه عندما نتسكع مع أشخاص مختلفين عنا، يكون لدينا حلان فقط: إما أن نصبح مثلهم، أو نمرض وربما نموت. لذلك يقدم لنا وصفة: لا تعرض نفسك كثيرا للأشخاص الذين تشعر بأنهم يؤذونك.

شارل بيبان: دعني أخبرك أن هذه الوصفة لا تجعلني أرغب في تطبيقها، أود أن أكون صادقا مع نفسي، دون أن أبقى منعزلا في المنزل!

أوليفييه بوريول: * على العكس من ذلك، أجد أنه يستدعي اتخاذ إجراء على الفور. يتم إخبار أي شخص يشعر بالسوء حيال علاقته الزوجية أو وظيفته: «إما أن تبقى وتصبح مثلهم، أو تغادر قبل أن تصاب بالجنون».

شارل بيبان إذن أنت لا تعتقد أنه كان من الممكن أن تذهب إلى الفلسفة لأسباب مرضية؟

أوليفييه بوريول: بالطبع، لكن عندما أرى ميشال سيريس أو رينيه جيرارد أو جيل دولوز، أقول لنفسي إنه يمكننا أن نكون أحرارا تماما بفضل الفلسفة، دون الخوض في التحليل النفسي!

شارل بيبان :يبدو أنك تقصد أنك تعرف ما يجري في قرارة نفسك، وبالتالي لا تعتقد أنك بحاجة إلى تحليل نفسي.

أوليفييه بوريول: *لا بالطبع، لأنني أقبل فكرة عدم معرفة الكثير مما يحدث في دواخلي، لأنني أعتقد أنه جزء من القلق ومتعة الحياة. من أن يكون لديك مستقبل مفتوح دائما. التحليل النفسي لا يهمني. ما ساعدني هو الالتقاء بأساتذة كبار في الفلسفة، ومعلمين في لعبة الكاراتيه، والغوص الحر…..

ترجمة بتصرف عن مجلة «سيكولوجي» الفرنسية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي