محاولة في إيقاف الهـرب

2022-07-07

 محمد خضير سلطان

إلى مولو في رواية عبد الكريم العبيدي معلقة «بلوشي»

بعد أن تسلم مولو الصغير جائزته الدولية للسلام محاطاً بالإجلال والتصفيق، ومزداناً بالشحوب الفخور لوجه أمه، صعد إلى المنصة ليلقي كلمته المراسيمية المعهودة.. رفع كتاب «الشماريخ « بيد وجائزته الفضية اللامعة بيد أخرى مفتتحاً قوله: أهدي جائزتي عرفاناً ووفاء إلى مولو الكبير الذي كان الحجر الأساس لمتلازمة الحرية والبؤس، ولولا هذه الكلمة لم نصل إلى تبني أبطالنا الجدد، ومنهم مولو الكبير.

وأضاف: أهدي جائزتي إلى مولو الكبير لعله آخر الهاربين من بؤس القبائل، ليته رمزاً لأجمل الهجرات في العالم. كان مولو الصغير لم يعرف الإحساس بالخوف الدافع نحو الهرب أبداً، لأنه ولد ونشأ بلا أدنى هلع في مستقر هولندا، لكنه استعاده بالتنافذ من الهلع القديم الهاجع لدى أحشاء أمه وتبناه قوياً واعتمده في دراسته عبر كتاب الشماريخ، الذي كتبه مولو، كما زار حدود المعارك بين إيران والعراق وشارع الوطن في البصرة حتى تأكد بأنه لم يكن بتلك الصورة البريئة، الذي ولدته أمه في البلاد المنخفضة عن البحر.

لا حرب أو سوق في البلاد المنخفضة، لا استلاب أو «زنابير» تصطاد الفارّين، لا شيء يدعو الهارب بالفطرة العميقة إلى الهرب، ومع ذلك هرب عبر حضن أمه إلى هزيع الهاربين في بلاده، هرب عبر الكلمة الجديدة التي استكمل فيها كلمة مولو الكبير. عرف الطريق إلى بلاده من خلال العبيد الهاربين كما يسميهم، حتى صار هارباً جديداً بفطرة الجينوم والمستعبد الوحيد الذي ينال حريته بحق ثم يهبها لبلاده لكي تستعيد وجودها مثل فرع من شجرة مزهر على حافة النهر.

ضجت القاعة قليلا بتصفيق رزين والتمعت عينا أمه في دمع كتوم بوجهها الشاحب الفخور. واصل مولو الصغير كلمته: «نحن العبيد، كنا قديماً أحراراً، وحينما ضاعت منا حريتنا، آلينا أن نهرب بعيدا في الأزمان، نركض قدام الطوفان، أيها العبد لا شيء لك سوى التخفي وراء سندان الحداد، وبين سيوف ليست ملكك وتحت ضوء قناديل السلطان، لا نقرب من وحش نائم أو أرض تقطعنا أقناناً ونقطعها ساحة للهروب، آلينا ألا نعود من غوايات الهرب في الأقاصي. وحده الهرب، يحددنا في إعادة تشكيل حريتنا القديمة وترميم قوانا في هيئة الهارب الضّلّيل. نحن العبيد، نشأنا مصادفة في قصور روما، علمونا مصارعة الوحوش، لكي نسلي الامبراطور غير أن الوحوش علمتنا أن نظرتها الكاسرة أجمل من رضا الحاكم، علمتنا أن الحاكم هو أصل الوحش. نحن العبيد نشأنا مصادفة في بيت الملك السومري فتهيأنا أحياءً للدفن الملكي. يموت الملك السومري فيذهب إلى العالم السفلي، نحن ملك صرف، نُقتل لكي نلحق به، نذهب إلى الموت مقتولين كجزء من مقتنياته لكي ندركه هناك. اوقفوا جنازة الملك في الطريق إلى مدفنها، شُدت أعنة خيول، وطأطأت ركائب مثقلة..

صاح أحدهم بقوة: امسكوا العبد الهارب عبر أحراش أوروك، لا تقتلوه.. ارموه بسهم أو عشرة سهام في قدمه، لا بد أن يصل حياً إلى مدفنه قرب القبر الملكي فأوراق السدر وماء الكافور لا تكفيان لكي نحمله ميتاً حتى مدفن العالم السفلي، ولا يمكن للعبد أن يشارك سيده في عدة حفظ الجثث حتى يوارى التراب عنهما.. امسكوه حيا فليس من المعقول أن ينادي الملك بعد انبعاثه على عبده عبر مئات الأميال. نحن العبيد، تعبنا من كنس السباخ عن أرض البصرة وتهيئتها للسادة الملاك، تعبنا من السوط النازل على ظهورنا ويدنا البيضاء النازلة على الماء، ثم التحقنا بجيش علي بن محمد لمقاتلة السادة وانتزاع المُلك.

أمر علي بن محمد عبداً بأن ينتزع السوط من سيده وينهال عليه ضرباً، كما كان يضربه.. مسك العبد السوط بيد راجفة وفي لحظة غضب تسرب من بين أصابعه عصر القنانة، إلا أن جنود الخليفة جاؤوا بعد سنين فحجبوا بين المعيار الطبقي وشكل الثورة المبكرة.. لقد كان جنود الخليفة أول درس لهوية الهروب. نحن العبيد.. قلنا للأرض: هجراتنا هروب جماعي ما كان جدبك دافعها، بل خوفنا الأزلي من تسخيرنا الذليل إلى نمائك، كنا نسكب أعمالنا وأثقالنا وقيودنا وأرواحنا على عربات الآخرين ونمضي منسيين.

نقف الآن قريبا من ظل تمثال سبارتكوس، تمنعنا ذكرى طيبة لبداوة الخارجي الفظ، فلم ندخل الكوفة، حروراء معقلنا للهرب، نسعى هرباً جديداً للقاء موتنا المستعار مع علي بن محمد، وقبل أن ينشد حبل الموت على عنقه، يلقي حسن سريع على اكتافنا سريعاً شارة مثل حدوة ثم نمضي في هروب أخير. نحن العبيد.. اكتشفنا شيئا لأجيالنا القديمة، مذ قُتل سبارتكوس وعلي بن محمد وحسن سريع. مذ مات مولو، وقد طبعت على شاهدة قبره حدوة غائرة في رمال الجزيرة، أثر لقفزة هائلة ونقش فراعنة منذ أحلام بؤس المصريين القدماء، ووسم سومري للجهات المعقوفة على طريق مدافن العالم السفلي، اكتشفنا حلاً وحيداً للخلاص من عبوديتنا السرمدية..

أن نهرب بعيداً في الأزمان من صلبان الروم، ونتقي حروب الخليفة عابرين دعة الحواضر إلى هجير الصحراء، أن لا نشارك الجنرالات ولائم دمنا المسفوح، ولا نموت ليحيا وطن لغيرنا. نحن العبيد، ليس لنا سوى أقدامنا للهروب.. من ليس له أقدام لا أرض للمتاهة، لنا أقدام هي معقد هروبنا في الازمان. لما نّزل في غمار الهروب، لا نقف أبداً ، لن نقف قريباً منه.. لا نسكن أمام هروبنا الجديد الذي ورثناه.

أنهى مولو الصغير كلمته فهرعت أمه إلى قبر أخيها مولو الكبير وبكت عميقا عند شاهدته حتى خرج مثل طيف إليها معانقاً، وحينما نظرت في وجهه تملت وجه مولو الصغير، يدعوها إلى العودة.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي