وعي التغيير واشتراطات المتخيل في رواية «ارتياب»

2022-07-06

عبدالحفيظ بن جلولي

إذا كان لوكاتش يعتبر الرواية «ملحمة بورجوازية» فإنه يؤكد على أنها حالة توفيقية بين الملحمة والتراجيديا، أي أنها تحمل عناصر الوحدة والقطيعة بين الذات والموضوع، وهنا يكمن سر الرواية، باعتبارها مرافقا للإنسان ترتبط بتطور الوعي كما يرى هيغل، فالقطيعة التي تحملها الرواية قد تكون مع الواقع الذي يتأسس باعتباره أكثر وعيا بالإنسان مقابل المتخيل، والوحدة تتأسس عند المفصل الذي يجعل الواقع استمرار للمتخيل، باعتبار هذا الأخير رافدا مهما له، ومن هذا الجدل تلم الرواية شتات كينونتها وعيا بالعالم، وهو ما تقدمه رواية «ارتياب» للسعودي بدر السماري، حيث الشروع في قراءتها وهي الصادرة عام 2014 يعود بالقارئ إلى التحولات العميقة والمزلزلة التي تتم في المجتمع السعودي حاضرا.

الرصد التخييلي للواقع السعودي

تُعتبر رواية «ارتياب» رصدا جماليا باحتماليات القبح/الجمال عندما يؤول إلى السرد، للواقع المجتمعي السعودي، من حيث ارتباطه بالذاكرة التاريخية أكثر من ارتباطه بالواقع، وارتباطه بمحليته أكثر من ارتباطه بالكونية: «وحين قيل له إنها مجسم لكوكب الأرض، استشاط غضبا، وأصدر أمرا للجندي بمصادرة المجسم» فالرواية تبتدئ بجملة نافية: «مبارك لم يرد التحية..» ومبارك شخصية رئيسية من حيث رؤيته التغييرية للمجتمع، ويتأسس هامشيا من حيث رؤية المجتمع للأسود، لكنه يؤثث حركته كفاعل سردي باتخاذ مواقف تغييرية كفكرتي تشكيل ملعب للكرة: «إذ استطاع مبارك تحويل الأرض الخلاء الكبيرة إلى ملعب» وتكوين مكتبة، في مسار السرد تتمظهر سجنيته في جهة الغربي الذي يستثمر في المكان، ولما أحس بانفصاليته عن الواقع المجتمعي انتقل إلى «حي البادية»: «حزم أمتعته وخرج بكل إرادته نحو بقية الشعب وسكن في شارع حي البادية» حيث العودة إلى الوعي المجتمعي، في هذه الحركة السردية تنبثق الحركة المجتمعية باعتبارها ارتيابا من الآخر المهيمن كونه يشكل خطرا على الهوية، لكن في الوقت ذاته وعي «مبارك» تطور انطلاقا من ذات الآخر الخطِر.

لم يرد السلام مبارك على «متعب» الذي سوف يغير اسمه مع تطور الأحداث إلى «ذيبان» والمقابلة بينهما تجد معنى في أبيض/أسود، لكن وعي الرواية يوازن بين القطيعة والوحدة، بين الذات والموضوع في شخصية «مبارك» إذ عدم رد السلام يمكن أن يحمل إمكانية التمرد، الذي تشير إليه الرواية باعتباره بداية أطلق شرارتها الملك «فيصل» 72، وبالتالي، يعود التواؤم بين الذات والموضوع في صورة التوافق المجتمعي الذي ينشده الوعي السعودي بالذات في تطوره من الانغلاق إلى الانفتاح، وهو ما سيتحقق في إدراك «ذيبان» لذاته المتعبة بالوحدة، بعد طلاقه من «أم فيصل» ومبادرته الجريئة في طلب الارتباط بـ«غزيل» بعد وفاة زوجها «أبو جابر» المناضل والمثقف، وهو «الشريك» الذي لم يبلغ درجة «التاجر» بينما «غزيل» تاجرة ماشية، ورغم محاولات ابنها «جابر» الملازم أول لمنع الزواج، إلا أن إصرار «ذيبان» كسر قاعدة مجتمعية عرفية، وانتقل بالوعي إلى التواشج في العلاقات عن طريق «الحب» وكسر معيار الذات المعطوبة عمريا، والذي يمثل سرديا المعادل الموضوعي للانخراط في الحركة المجتمعية المتعددة في هرمها العُمْري، وفي تشاركيتها الوجدانية، والهدف من ذلك استعادة اللحمة المجتمعية في مظاهرها الإنسانية المتوافقة والطبيعة البشرية.

المكان وعي التحول ووعي الحداثة

ضمن حركة «مبارك» السردية انتقاله من «الحي السكني للشركة» إلى «شارع حي البادية» والمواجهة قائمة باعتبار الهوية الشارعية التي تشكل المعادل الموضوعي للمدينة، أو الحيز الذي تتحقق فيه الحركة النشيطة المنتجة للحياة، أو «الهامش اليقظ» بتعبير عبد الكبير الخطيبي، على أساس اشتغال الوعي، والانتقال بين حيين يكشف عن الهلامية في ترتيب الحداثة في وعينا العربي، إذ نجد محمد عابد الجابري يدعو إلى «التأصيل الثقافي للحداثة في وعينا العربي» أي استلهام الحداثة بمعايير التجديد من الداخل، وفق المعيار القيمي المنسجم والذات العربية وتاريخها، بما لا يعني الانغلاق الحضاري الذي لا يساهم في إدماج الذات في التحولات الكونية والإفادة منها انطلاقا من الهوية الثابتة، والاختلاف التاريخي والقيمي والأخلاقي بين الذوات المتعددة في المنتظم العالمي.

الرواية تثير إشكالية عميقة من حيث تهيؤ المجتمع العربي لقبول فكرة الحرية، لا باعتبارها انفكاكا من أسر أعراف بالية تحكمت في الأفراد وأحالتهم إلى مجرد صدى لما يتردد في المجتمع، لكن فكرة الحرية المشروطة بالمسؤولية، «صار ثوب الحرية فضفاضا..» فالحرية لا تتأسس وعيا تاما بالحركة في فضاء لا معايير تؤطره.

هناك حيان بما يوحي بالتشابه العضوي لكليهما، لكن الحي السكني للشركة منتج، وحي البادية مستهلك، وحركة «مبارك» تمثل العودة إلى الذات: «حزم أمتعته وخرج بكل إرادته نحو بقية الشعب، وسكن في شارع حي البادية» وسرديا يمثل هذا الانتقال حركة مستقرة في وعي الحرية، لأن الرواية تمثل الإقامة في الحي السكني للشركة، بالإقامة داخل الـ«أسوار» وهو ما يعني السجن داخل هوية، تنبثق من جنسية الشركة وقيمها الوجودية، والتخلي عنها «إراديا» يعني الانفصال التحرري من ثقافة وقيم ووعي مختلفين، لكن المهم أنه سوف يباشر التغيير في «شارع حي البادية» بالروح التغييرية ذاتها القائمة في الوعي التحريري ـ الغربي ـ المنتج للحياة في شقها المادي النشيط، والضروري لإنتاج الوعي بالكينونة، «لكن مبارك عاد.. قرر أن يواجه الأشياء في وسط الشارع».

الوعي بالحرية مناط إدراكها

ينتظم وعي العبودية في المجتمع العربي، ليس باعتباره استعبادا للأشخاص لكن للوعي، أي ارتهان الوعي لمستوى من التحجر الذي يحيل الذات إلى مستعبد لقيم العرف والثقافة السائدة، والخجل المرضي من مواجهة الواقع، وكل ما تقوم به الشخصيات في مستويات معينة من مستواها السردي يمثل تمردا على الاستعباد القيمي للأشياء ومنه العبودية بمفهوم سلب الحرية للأشخاص بسبب اللون، فإصرار «مبارك» على إقامة المكتبة وتوضيب قطعة الأرض لتصير ملعبا، وإصرار ذيبان على الزواج من غزيل، وعدم رضوخها لإرادة ابنها في ذلك، وقرار ابن معتاز في الزواج من «حياة» مع معارضة «فطيم» جميعه يمثل ذلك الوعي التحرري في مواجهة الواقع ومن ثم تغييره، والإشارة إلى إلغاء الرق من خلال القائم بالسلطة الملك «فيصل» يمثل الإحالة الأشد ضرورة للانخراط الشامل في التغيير، أي التوافق المجتمعي سلطة وجماهيرا في ذلك، «حتى إنك قبلت أن تبقى في مزرعة الشيخ بعد أن أقر الملك فيصل قرار إعتاق الرق».

لكن الرواية تثير إشكالية عميقة من حيث تهيؤ المجتمع العربي لقبول فكرة الحرية، لا باعتبارها انفكاكا من أسر أعراف بالية تحكمت في الأفراد وأحالتهم إلى مجرد صدى لما يتردد في المجتمع، لكن فكرة الحرية المشروطة بالمسؤولية، «صار ثوب الحرية فضفاضا..» فالحرية لا تتأسس وعيا تاما بالحركة في فضاء لا معايير تؤطره. إن صفة «فضفاص» تشكل الوضع الفكري والتأملي الذي يشمل الوعي وهو يستأنس بالقرب من الحرية، فمجرد الإحساس بها يمثل الحالة القصوى لنشوة الذات، باعتبارها ترسم أفق الفكر بذاتها، ومن ثم ينطلق العقل في تصميم المفاهيم والتصورات والأخيلة التي تجعل من المسار الحضاري كامنا في الجماهير، باعتبارهم الإرادة الواعية النافية لأي ارتياب، في الطريق نحو تأكيد الكينونة، ولهذا اندلع السؤال الوجودي/الحضاري كما دوي تَحَمّلَه السرد بصعوبة، لكن التلقي حاول أن يؤثث له بنيات استفهامية لعله يصل إلى عمق السؤال المتعلق بمحطة الانطلاق بعد العطالة التي أصابت الحركة نحو أفق الوعي، «لكنك رميت السؤال أخيرا: (متى نوصل)».

التجربة والإحساس بـ«ارتياب» و«بؤس»

أظن أن إمبرتو إيكو استلهم عنوانه «القارئ في الحكاية» من خلال تجربته في القراءة، وتعني عندي الإحساس الذي نجده في صحبة بعض الكتب، إحساس أننا مشاركون في خيال الرواية، أفكارها ومفارقاتها، و«ارتياب» شعرتُ بأنها تدفعني إلى تحرير هذه التجربة، إذ إنها تؤثث معمار السرد بجزأين الفاصل بينهما ليس الحدث، بل ترتيب الرؤية لتأكيد التغيير في الواقع السعودي، إذ ينغلق الجزء الأول على شخوص آيلة إلى النهاية (الآباء) بينما ينفتح الجزء الثاني على القادمين على الحياة ويمثلهم «متعب» ابن «ذيبان» الذي يعود من أمريكا ليباشر تفجير ملاحظاته المثيرة في واقع يتغير، فبدا الجزء الثاني بمثابة «النافذة» في معمار الرواية المطلة على «الشارع» الذي يمثله الجزء الأول.

يفتتح السرد حركة «متعب» بـ«البؤس» الذي يشعره حيال حدوث بعض الأشياء، ويستمر هذا الإحساس مكرسا في الجزء الثاني كعلامة على ارتياب السرد من شيء ما، تماما كما يكرس السرد حالة الـ«ارتياب» في الجزء الأول، كلمتان يُسجل رنينهما في وعي القارئ، لأن الرواية تحاول أن ترسم واقع ذات تخشى التغيير المشوه: «الأشياء بلا شك تتغير، ومن الصعب تحديد إن كانت تمضي نحو النمو أو التداعي» ولهذا تأسس السرد بين التغيير المحتمل أن يكون بائسا والارتياب في أن يكون هناك تغيير.

كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي