شارل لوبلان في كتاب «الترجمة وتاريخها الطبيعي»: المترجم ليس مبدعا!

2022-07-03

خالد بريش

غالبا ما تحمل عناوين الكتب إشارة إلى مضمونها، وتعبيرا عن محتواها، إلا أنه في كتاب «الترجمة وتاريخها الطبيعي» Histoire naturelle de la traduction، لمؤلفه شارل لوبلانCharles Le Blanc ، ترجمة بسام بركة، الصادر مؤخرا عن دار معنى للطباعة والنشر، يجد القارئ في عنوانه من قبل الخوض في غمار سطوره، ما يجعل فكره يذهب في اتجاهات شتى، بحثا عما قصده المؤلف من عنوانه هذا، وبالأخص إقحامه لعبارة « طبيعي naturelle » التي أتت ظاهريا في غير مكانها، فهي كصفة لها مؤداها الخاص لغة ومفهوما ومعنى… لكن بعد تخطي عَتبَة السطور الأولى، والإبْحار في عُباب الصفحات، يبدأ هذا المعنى والأفكار التي أراد المؤلف إيصالها، تتسرب إلى القارئ، وتنفتح أمامه بالتالي أبواب الصفحات بابا وراء آخر، خصوصا بعدما يُدرك أن المُؤلف استمد العنوان من الكتاب الموسوعي «التاريخ الطبيعي» للمؤرخ الروماني الشهير بلينيوس الأكبر، الذي تناول موضوع الطبيعة، من حيث كونها قوة فعالة وعقلانية. فيكون بذلك قد نقل موضوع الترجمة إلى حيز آخر، بعيد عن إعطاء معنى لنص عند ترجمته من لغة إلى أخرى، جاعلا منها فعلًا قائما بذاته، فعالا في حركة المجتمع والفكر والتاريخ.. ومع ذلك يبقى هذا العنوان الأحجية رفيقا للقارئ حتى الصفحة الأخيرة، وهنا تكمن أهمية اختيار العناوين في الكتب…

يبدأ الكتاب بمجموعة من الحكايا المُبَسَّطة، التي تلعب دورا مهما في إيصال رسائل المؤلف إلى القارئ، الذي يُكوِّن من خلالها فكرة واضحة عن مراده من كتابه، الذي يُعالج إشْكاليات مهمة تتعلق بالتأليف والكتابة بصفة عامة، وقراءات النص المختلفة، وحول فهم النصوص من خلال الخبرات والتجارب والتراكمات الثقافية، التي يتمتع بها القارئ، وكذلك حول الترجمة وأنواعها وأساليبها وطبيعتها وكينونتها ودورها، وهي الموضوع الأساس للكتاب، بالإضافة إلى دور المترجم وحِنْكته ومقدرته على تطويع الألفاظ والعبارات، مستفزا القارئ منذ السطور الأولى، دافعا إياه لطرح أسئلة لا تتوقف، حول كل هذه المواضيع.

صيغ الكتاب بأسلوب أدبي فلسفي، يضع القارئ أمام موقف صعب إن لم يكن مُتملكا ناصية اللغة جيدا، مُتعَوِّدا على هذا النمط من الكتابة، التي يتداخل فيها الأدب في الفلسفة والفنون المختلفة والمنطق والفانتازيا الإبداعية وأساليب الكتابة وهندسة المفردات والعبارات والابتسامة أيضا… إنه كتاب سُبِكَ بأسلوب الحكاية التي تأخذ القارئ أحيانا إلى مواضيع جانبية شكلا، لكنها أساسية لفهم الكتاب والإلمام بمحتواه، الذي تشكل كل فقرة فيه موضوعا مستقلا، تحتاج قراءته إلى صبر وأناة وتركيز، لكي لا تفوت القارئ أي إشارة أرادها المؤلف، وإلا كان كلاعب الشطرنج الذي إن فاتته نقلة، كانت الهفوة التي ترسم نهاية اللعب…

تطرق الكتاب إلى مجموعة قضايا أساسية في آليات الترجمة وعالم الكتابة والتأليف عموما، ومن ذلك على سبيل المثال، المترجمون الذين يخوضون غمار النصوص القديمة، وهم غير مدركين لطبيعة اللغة التي يترجمون منها وإليها، وما تحمله في طياتها من دلالات، فيقومون بتأويلها بعيدا عن نوايا مؤلفها وغاياته، ويبنون عليها نظريات وقواعد لم يُرِدْها المُؤلف أصلا، لأنها لم تكن مطروحة حين تأليفه لكتابه، وأيضا لأن النص الأساس لا يحتملها. باسطا الكلام حول ما يسميه « القراءات المنحرفة » وهو أمر من الخطورة بمكان، كونه ينتج ترجمة منحرفة، وبالتالي بناءً فكريا يجانب الصواب.

من المواضيع المهمة التي تناولها الكتاب، موضوع «الخوف » من عدم تأدية المعنى على الوجه الأتم والأدق، وكذلك الخوف من عدم الفهم العميق للنص المُترجَم والمراد منه، خصوصا عندما تكون اللغة التي ألف فيها الكتاب تحتمل مفرداتها معان كثيرة، ومشحونة بالتاريخ، ما يعني أن المترجم ليس مجرد عارف بلغتين، ينقل من إحداهما إلى الأخرى، بل هو قارئ ممتاز في الدرجة الأولى، يغوص في معاني واحتمالات المتن الذي يترجمه، مُكْتشفا ما حَوَاه، مُسْتندا إلى خلفيته الفكرية والاجتماعية وخبراته المتراكمة، فيعطي كل عبارة معناها الدقيق، وإلا لكانت التعابير المستخدمة في ترجمته سطحية، وعبارة عن مجرد ألفاظ من الممكن أن يقوم بها في أيامنا هذه محرك البحث غوغل.

« الترجمات الوحيدة التي تقاوم مرور الزمن هي تلك التي تنتهي بأن تفرض نفسها كما لو كانت نصا أصليا».

أما الترجمة التي عرفتنا بهذا الكتاب القيم، فقد قدم المترجم بسام بركة للقراء ما نُطْلق عليه «ترجمة وفية» بكل المعايير، مُتقيدة بالنص الأساس، بذل فيها جهدا كبيرا لكي لا يخرج النص عن إطاره وألفاظه ومصطلحاته. فأتت جمله أحيانا أشبه ما تكون بتراكيب المعادلات الرياضية العلمية، بل كأنه كان يحمل مِسْطَرَة مُهَنْدِسٍ يقيس بها الكلمات ومساحة الجُمَل والمراد منها ومؤدَّاها ومفهومها وخلفيتها، ما جعل الجُمَل مَسْبوكة بمهنية عالية، بعيدة عما نسميه البَهْرَجات اللغوية، وتنْميقات الألفاظ المختلفة، التي غالبا ما يلجأ إليها المُترجمون، وتكون على حساب النص المُترجَم، كذلك لم يترك قلمه يتدخل ويقوم بإضافات تجميلية، لتأدية المعنى المقصود في اللغة التي يترجم منها، وإنما صاغ جمله بحرفية المتمكن من اللغة العربية، فكانت ترجمته في النهاية، لا تقل إبداعا عن نص المؤلف نفسه…

وتعتبر التعليقات والإيضاحات التي في الهامش، ضرورية لفهم غوامض المتن، توخى فيها المؤلف المصداقية والمنهجية العلمية الدقيقة، فشكلت مفاتيح لا بد منها، وأضافت للقارئ كما كبيرا من المعلومات التي ساهمت إلى حدٍ بعيد في إخْراج الكتاب من عوالمه المحدودة، إلى عوالم أخرى أوسع وأكثر رحابة، إذ من المعروف أن أي نص يرتكز في أساسه على نصوص وآراء كثيرة، ومشحون بأفكار قد يمر عليها القارئ دون التنبه لها، لكن المؤلف أراد تبيانها له للوقوف على دقائقها والإلمام بمحتواها، مُحْدِثا من خلال الهوامش نقلة معرفية وثقافية، حتى إن القارئ يتولد لديه إحساس بأنه كلما أوغل في الكتاب، اكتسبت هذه الهوامش أهميتها، حتى غدت أشبه ما يكون بما كان يضيفه النُّسَّاخ قديما في الهوامش على النصوص، «خوارج المخطوط» والتي كانت توجه القارئ، وتتحكم بنمطيه قراءته.. ومن القضايا الجدلية المهمة التي تطرق إليها الكتاب، اعتباره أن «المترجم ليس مبدعا» جاعلا من المترجم مجرد ناقل وموصل للمعاني التي يختزنها الكتاب.

وهذه قضية تحتاج إلى إعادة نظر، لأننا اليوم أمام برامج معلوماتية متطورة تقوم بترجمة آلية للنصوص، غالبا ما تكون بلا روح ولا أسلوب، ولا تشد القارئ، في أي حال من الأحوال، وهي أشبه ما تكون بأطباق الوجبات السريعة، التي تضر بالصحة أكثر من نفعها… وهذا يذكرنا بمقولة شيخ الأطباء الفيلسوف والمترجم في دار الحكمة في بغداد ابن ماسَوَيْه، التي تعطي للمترجم البعد الإبداعي كاملا بلا نُقْصان، بعدما قرأ إحدى ترجمات حُنَيْن بن إسْحاق دون أن يعلم اسم صاحبها «تُرى أوْحى الله تعإلى في دَهْرنا إلى أحد، ليس هذا إلا إخراج مُؤَيَّد بِروح القُدُس». ومن هنا فإن المترجم المُتْقِن والمُتَمَرِّس، هو مبدع من حيث أسلوبه وخياراته اللفظية واستخداماتها، ما يُعْطي النص بعدا ووجودا جديدين، ويُلبسه حلة أخرى. وإلا ماذا يُمَيِّزُ ترجمة عن أخرى سوى الإتقان، الذي هو نتاج إبداعي فعلي قائم في ذاته؟ ثم أليست الترجمة عملية ولادة جديدة للنص المترجم، وبالتالي هي إبداع؟ وإلا لكانت مُمِلة وفجَّة وبلا حياة، ولا يمكنها أن تفرض نفسها وتقاوم الزمن، كما ورد في الكتاب نفسه « الترجمات الوحيدة التي تقاوم مرور الزمن هي تلك التي تنتهي بأن تفرض نفسها كما لو كانت نصا أصليا».

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي