بمناسبة حصوله على جائزة ميهاي إيمينيسكو العالمية للشعر: محمد بنطلحة منح الكلمة الشعرية سلطة أكبر

2022-06-30

عبداللطيف الوراري

حصل الشاعر محمد بنطلحة على الجائزة العالمية الكبرى ميهاي إيمينيسكو Mihai Eminescu للشعر لعام 2022، نظير ما في شعره من «سلطة الكلمات والقدرة على تجلّي اللغة الشعرية» وقد تسلمها في اختتام فعاليات مهرجان كرايوفا العالمي للشعر في رومانيا، الذي انعقد بين 17 و22 يونيو/حزيران 2022. وتلقى الشاعر المغربي تهاني كل الشعراء المشاركين في هذا المهرجان، كما منح العضوية الشرفية للمهرجان، والميدالية الذهبية التي تحمل اسم الشاعر الروماني الكبير (1850- 1889) الذي يجري الاحتفاء به على نطاق واسع باعتبار قيمته الفنية والقومية في آن، وكونه الأهم والأكثر تمثيلا للشعر الروماني؛ فهو شاعر يُحسب على المدرسة الرومانسية في عصرها الذهبي، وروائي وصحافي. يُصنّف باعتباره أكثر الشعراء الرومان شهرة في الفترة الحديثة، بل أكثرهم تأثيرا في الثقافة الرومانية، حيث يتم تدريس شعره بشكل موسع في المناهج الرسمية في البلد، كما يعتبر عرّاب اللغة الرومانية الحديثة.

وقد تناول هذا الشاعر القومي في أعماله مواضيع متنوعة، ميتافيزيقية وأسطورية وتاريخية؛ من الطبيعة والحب والكراهية والنقد الاجتماعي، إلى استحضار سنوات طفولته في شعره المتأخر بكثيرٍ من الحنين، وما تعكسه من جوانب انطوائية طاغية في شخصيّته. تُرجمت قصائد إمنيسكو إلى ما يزيد عن ستين لغة، بما ذلك العربية، حيث ترجم له كامل عويد العامري وغيورغي تسارليسكو «قصائد حب غنائية « (بغداد 1998).

اللغة بوصفها مرجع نفسها

يعدّ الشاعر محمد بنطلحة أحد شعراء العربية المعاصرين اليوم، واستطاع شعره في العقود الأربعة الأخيرة أن يُمثّل الوجه الناصع في حداثة الشعر العربي على مستوى الرؤية والإنجاز الفني، وتمكّن من اختراق الحدود والأشكال المطروقة التي كانت تتحكم به إلى وقت قريب، على نحو يعكس الانحياز القوي لجماليات للغة العربية في دورتها الجديدة. وقد عمل إلى جانب كوكبة من مجايليه من شعراء الحداثة والتجديد، عبر فترات متعاقبة منذ الاستقلال السياسي، على الرفع من النقاش الدائر حول قضايا الشعر المعاصر في المغرب، وتوطينها في الذهاب – الإياب بين الممارسة الإبداعية وحدوسها وخلفيّاتها «النظرية» وهو ما ساهم في تثقيف القصيدة المغربية وجعلها أكثر أصالة ونزوعا إلى التجريب وقدرة على تحويل بنياتها الجمالية، بدلا من كونها «صدى» أو «إعادة إنتاج» لما كان يجري في الشعر المشرقي.

يُحسب الشاعر محمد بنطلحة على جيل السبعينيات في الشعري المغربي، لكن لم ينشر ديوانه الأول «نشيد البجع» (1989) إلا بعد حوالي «ربع قرن من اللعب بأعواد الثقاب» على حد تعبيره. وكان هذا «النشيد» بما يحمله من أصوات متعددة من حياته الماضية، ومن قدرة على مواجهة الموت، يعبر عن نهاية مرحلة من تجربة الشاعر وبداية أخرى باعثة لحياة جديدة أكثر إصرارا وانطلاقا، إذ جسدت أسلوب الشاعر الخاص وميّزته عن الأساليب السائدة، كما في أعماله التالية: «غيمة أو حجر» (1990) الذي وطّن فعل الكتابة كمغامرة، و»سدوم» (1992) الذي واصل هذه المغامرة من خلال فعل التحويل الذي يعود بـ«المعرفة إلى أصلها البعيد» و»بعكس الماء» (2000) الذي أكد فيه بلا رجعة عن وعي اختلافي للحداثة، مُعطيا لكتابيّة الشعر دلالة أوسع، و»قليلا أكثر» (2007) الذي ازداد فيه شعور الأنا بهشاشته مقتدرا على وضع الكارثة في سياقها اللغوي المناسب، و»أخسر السماء وأربح الأرض» (2014) أو «كذئب منفرد» (2018) حيث ثمة شُغْلٌ على» الاسم الشخصيّ» للشاعر بشكل حادّ يكشف عن تفجُّر معمار هويّة الذات وسط كثافة العلامات الحياتيّة أو انهيارها. فمن غير المجدي أن نبقى خارج الكلمات، ننتظر ما تحيل عليه داخل منطق العلاقة بين الدالّ والمدلول؛ بل ينبغي أنْ نُفكِّر في داخلها وفي ما تحدثه من همهمات آنية مقبلة من أغوار الأنا، لأنّ الذي يتكلم هو الكلمات ذاتها وهي تشتبك، من ملفوظ إلى آخر، مع ذات نصية تستضيء بإحالاتها الذاتية، وليس بمرجع ما يتلصص عليها أو يتلكأ خارجها.

وفي كلّ مرة من تطوّر تجربته الشعرية؛ أي في عبورها من «النزوع الملحمي الرؤيوي» إلى شعرية «المغايرة والاختلاف» كان محمد بنطلحة يُبلور مشروعه الجمالي ويسائل هويته بانتباه وأناة، خارج ادعاءات النظرية وذائقة التلقي السائد. من ذاتٍ إلى ذات، تنهل قصيدته، في صيرورة حداثتها، مُتخيَّلها الكتابي من أمشاج ثقافية وفلسفية وأسطورية، ومن اختلاطات علم جمال اليوميّ الذي يتواشج فيه ما هو طبيعي ومادي وتجريدي وخلاسي، على نحو يجعل الدالّ الشعري يناجز إمكاناته داخل شرط الكتابة عابرا من أرخبيل الضوء إلى بلاغة العتمة، ويتآخى مع تجلّيه اللعبي والصدفوي:

«كم مرّةٍ طويتُ ركبتي

وفي نيّتي

أن

أطوي

ما بين «جزيرة أَمْسِ»

و«جزيرة يُمْكِنُ»

في ثانيةٍ!

كم قلتُ: يا لساني، كُنْ قاطرة.

وإذا به جَرَسُ إِنْذار!

مع من ألعبُ؟»

الميتاشعري أو تدوين «القطائع»

يتخذ محمد بنطلحة من الميتاشعري مظهرا للكشف عن وعيه الكتابي من طور إلى آخر أكثر اختلافا، أو بالأحرى عن «أزمة هوية» من الكتابة لديه. ومن ثمّة، كان يحتاج في معظم أعماله، ابتداء من عمله الشعريّ سدوم، إلى تنبيه قُرّائه بانتقالات طارئة تحدث في صميم تجربته الشعرية. وهو لا يفعل ذلك من باب الإخبار وحسب، بل إنّه يتّخذه سخريّة من نسق القواعد التي تحجر على سبل الإبداع وتقف دونه.

وقد بدا هذا النزوع الميتاشعري عنده واضحا من خلال عنونة قصائده التي يختار لها عبارات ذات منحى نظري وتأمّلي (لذة النص، مدخل نظري، عمود الشعر..) فيما هي تكشف مسعاه لخرق جماليات كتابته وتفجيرها من الداخل، ولاسيما في ما يتعلّق بمسألة اللغة التي أخذت تشتغل وفق آليات جديدة في بناء الخطاب، واقترح عبرها تصوُّرا مغايرا لذات نصية لها القدرة على «الاغتصاب اللفظي للصمت» كما يقول، واستنفار «الطاقات الاحتياطية» التي تهجع في اللاوعي طريقا بديلا لنشدان العالم ومواساة خساراته:

«اللغةُ

حينما عَمِيَتْ عن كلّ شيء

تطوَّع الصمت

وصار عُكّازَها

من كثرة الصَّمْتِ»

صارت الذات ـ هنا- تنحو إلى تقويض عمارة البناء واقتصاد ما تقوله داخل خطابها، وهو ما أعطى للدال النصي وضعية خاصة، مُتجاوبا مع خيار قصيدة النثر الذي توجّه إليه الشاعر وحقق فيه انشقاقات جمالية على مستوى تشييد نصوص التجربة التي قطعت مع ما سبقها، وباتت تنقض بهويتها المغايرة المنطق السائد والاعتيادي لطبيعة المعنى الشعري تحديدا، عبر مسار- نهر تخييليٍّ يروم انتهاك اللغة وحملها على أن تقول ما لا تريده، وما لا تقصده على عادة النسق السائد:

«منذ أَنْ شققتُ بابا

في لَيْلِ المعنى

ونَهْرٌ ما

يَحْمِلُ الغُيومَ

والبحيراتِ

والحدائقَ

يحملها بأَشْجارِها، والطُّيورُ فَوْقَها

إلى داخل الغرفة»

نكتشف سيرورات هذا الوعي الاختلافي داخل شرطه الكتابي المفتوح واللانهائي الذي يدمغه لعب الدالّ المتوتر عبر متواليات مُشذّرة وشديدة التكثيف بين الشعري والسردي، والنابع تحديدا من الأنا الاستيهامي الذي يسائل هُويّته بالنظر إلى انزلاقاته من دال إلى دال، وإلى شرط غيريّته:

«ما أقوى حُجّتي: اللُّغةُ مِرْآةٌ.

صَحيحٌ جِدّا.

لكن،

اِقْرَإِ الْحَاشِيةَ:

وراء كُلِّ مِرْآةٌ قِناعٌ»

ومثل هذا الوعي بقدر ما أعاد بناء الهوية الشعرية، وطّن عبرها مبدأ الغيرية كتمثُّل لذات الكتابة من خلال الآخر المتعدد في مرايا الذاكرة والمتخيل، فيجعلها هويّة استغوارية دائمة التدفق تنفي نفسها ولا تطمئنُّ إلى نموذج غيرها؛ إنّه «الأثر السيري» الذي يخلق ميثاقه الخاص به، دون أن يحيل على شيء خارجه حتى وهو ـ بشكل لعبيّ- ينغزه:

«لي

ــ فَقَطْ ــ

مِزْمارٌ يقودُني إلى مَكْتبةٍ

في قاعِ الْبَحْرِ.

يقودُني إلى نَفْسي

مع الوَقْتِ،

صِرْتُ أُقَطِّرُ الشَّمْعَ على الْمَاءِ

أَسْتَغْفِلُهُ

وَأَتهجَّى نَفْسي

مَوْجَة

مَوْجَة»

في نصوص «الجسر والهاوية» التي كُتبت بلغةٍ مُفكَّر فيها ومفارقة تمزج بين التأمل النظري والبحث المعرفي الأركيولوجي بالنفس الاستعاري، بقدر ما تجسد كتابة الشعر باعتبارها تحويلا عارما للأنساق وللقيم، نعثر على غنائم تفيدنا في تتبع التطوُّر الجذري الذي كان يحدث في صميم تجربة محمد بنطلحة الشعرية، بل هو نفسه يريدها أن تكون – ضمن المقاصد التداولية التي تتغيَّاها- في متناول القراء ممن يفترض أنّ أفق انتظارهم قد خاب؛ بعد أن درج على قصائد التجربة السابقة، أو ممن يبحث فيهم عن تلقٍّ ملائم لتجربة تتحقق داخل شرائط لغوية وجمالية معقدة. ولهذا، نفهم كون الشاعر لم يُقْدم على كتابة هذه النصوص والانشغال بها، إلا عندما أخذت هذه التجربة تلج مناطق صعبة وشاقّة على مستوى الإنجاز والرؤية. وفي هذا المعنى، تعكس النصوص نفسها بوصفها استراتيجية تنصت إلى عمل الكتابة بالقدر الذي تضيء من خلاله شرائط تلقّي هذه الكتابة، وأخطر ما تتوجه إليه إنما يتعلق بسؤال الكينونة الشعرية في تحولاتها، وفي ثراء مصادرها التي تقطع مع الأيديولوجي وتعود إلى «أصل الأشياء» عبر فعل الدهشة والمفارقة، وفي فعل القطيعة الذي كانت تحدثه، وفي التشويش الذي يخرق حدود الكتابة داخل ثنائية الشعر والفكر، ولا يهادن في معرفة خرائط عملها الأكثر دقّة: «قصة خلق القصيدة قد تبدأ بالصدفة. لكن حبكتها لا تتم إلا بالصنعة. علم الحيل مفيد هنا. والإمكانات كثيرة: تقطيع، سرد، إخبار، وصف، تعدد أصوات، كولاج، وغير ذلك» على تعبير الشاعر.

إنّ الكتابة عند محمد بنطلحة هي «فنّ تدبير الفراغ» و«خلاصات مؤقتة» خانها التعبير، وتجربة متلاشيات صعدت للتوّ من بخار المعاني: تفاصيل، هوامش، عناصر من اليوميّ والمعيش، ارتدادات إلى الطفولة، إفرازات أحلام، قفزات في فضاء اللاوعي، إلخ. تأخذ أكثر مما تعطي، وما تضيئه سرعان ما سرعان ينطفئ ويهرب ويتلاشى. وبالتالي، تقدم نفسها بوصفها حقلا شاسعا من الفرضيات، أو من «المغناطيس» كما يؤثر تسميته.

وهكذا، تتجلى لا نهائية الذات داخل كتابتها المفتوحة، كأنها تواجه من خلال استعارة العمى عالما من التيه، وتجربة مسحورة بحضورها في العالم وكثافته، فيما هي تستبطن «علم تركيب اللاوعي» بقدر ما تسعى إلى ردم ثنائيات متراصّة؛ مثل: الأنا والآخر، المتن والحواشي، العلة والأثر، المصادفة والضرورة، الكلام والصمت، الحلم والذاكرة، المعيش والمقول، الطارئ والأزلي، البياض والسواد، الحضور والغياب: «مع الوقت، صار وعيي أكثر شقاء. تشعّبتْ بي السبل. انقسمت الذات على أكثر من ذات. كثرت المصابيح في عزّ الظهيرة. وفاض الماء عن المعنى».

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي