طاحونة «سْويتْ أمريكا» العملاقة

2022-06-29

واسيني الأعرج

اللحظة الأولى في رواية «سويت أمريكا» بُنِيتْ على كذبة كبيرة في الجهة الغربية من فريلاند: اعتبار جيل (جلال) عربياً مسلماً مندساً. تنفتح الرواية على هذه الحالة من الغموض، الكل يتكلم عن هذا الرجل الغامض والغريب الذي يتخفّى من وراء الترميمات؟ جيل وهو في سيارته في اتجاه بيته، يسمع الانفجارات ويقرأ في اللافتات التي تدين الأجنبي أو الغريب. كان مع كايا زوجته وابنتيه بالتبني يامي ونويمي، وراءهما صديقه فريديريكو على متن شاحنته ينقلون الأغراض نحو السكن الجديد الذي اشتراه جيل بعد أن رممه. لم تكن العائلة تعرف أن العنصرية والحقد المنظم ينتظرانهم جميعاً في المنعرج. في مقهى اللايتكوفي تدبر المجموعة العنصرية خططها الجهنمية لدفعه إلى الخروج من المدينة بعد أن تمّ كشفت اسمه الحقيقي، أو ُخيِّل لهم ذلك: جيل=جلال. ويسري الخبر كالنار في الهشيم، بينما يستمر جيل في عمله المعتاد كمرمم للمعالم الدينية، ترميم كنيسة فريلاند، كما سبق له أن فعل ذلك مع الكنيس اليهودي والمسجد.

لا تتأخر زينب عن وضع قارئها في مدارات الصراع التراجيدي، منذ اللحظة الأولى تبدأ الحرب العنصرية ضده لثنيه عن عمله. يستعملون كل وسائل الضغط لطرده، لكنه تجاوز ذلك بعدم السقوط في فخ الجماعات العمياء. يحوّطون بيته برمي بالزبالة والفضلات. ويتفرغ فقط لعمله الترميمي لكنيسة إيرنيستو مالكوم، الآيلة إلى الزوال.

«ليس سهلاً أن تكتب رواية وكأن الأمر سهل ومتاح، إلا إذا كنت بلا مسؤولية إبداعية وثقافية»، هكذا أجابت زينب عندما طرح عليها السؤال في قناة «مونتي كارلو»: لماذا التردد في الانتقال إلى الكتابة الروائية؟ هل الأمر بكل هذه الصعوبة؟ كانت محقة، لأن الرواية شبكة معقدة في بنياتها وفي تعدديتها الموضوعاتية. روايتها الأولى: سويت أمريكا (أمريكا الحلوة) كانت فاتحة تجربة مميزة ستتسع بسرعة. فقد أثارت جدلاً حقيقياً، كما أثارت انتباه النقاد العرب وكثير من الإعلاميين، والقراء، منذ صدورها أولاً عن «دار الوطن» في الجزائر والتي اكتشف القراء من خلالها زينب لعوج هذه المرة روائية، ثم في طبعة عربية في الدار الأهلية. ربما لأنها وضعت في جانبها كل وسائل النجاح، ومنها اختيار التريث قبل الإصدار النهائي، فتركت النص ينضج على نار هادئة بعد أن مر على أيدي الكثير من الأصدقاء مخطوطاً، الذين قرأوه مخطوطاً. وسط هذا الكم الهائل من الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة، كان من الصعب أن يجد الكاتب مسلكاً يقودك نحو القراء. وقد أظهرت زينب، في معرض أبو ظبي، ملابسات النص الأول المحيطة به بالخصوص عندما يكون الكاتب اسماً معروفاً في الساحة الأدبية كشاعر. الرواية الأولى دائماً رهان كبير يقود النص نحو الارتفاع أو الانهيار الكلي. الخوف من الإخفاق حالة طبيعية عند المرء، لهذا سيكون التسرع قاتلاً.

لهذه الرواية الجميلة قصة تستحق أن تروى. فقد ترددت الكاتبة ثلاث سنوات قبل نشرها نهائياً. نشرتها في البداية في صيغتها الأولى باسم مستعار «زينا ماريا» وبعنوان إشكالي «مسلم فريلاند» واعتبرتها الكاتبة وهي تشرح خياراتها، مجرد بروفا، وزعت على عدد من الأصدقاء والمقربين لإبداء الملاحظات والرأي، فكانت ردود الفعل إيجابية جداً، مما حدا بالكاتبة بنشر الرواية تحت عنوانها النهائي «سويت أمريكا» بعد أن أعادت كتابتها، بل غيرتها جوهرياً، وانتقل الفعل الفردي «مسلم» إلى حالة جماعية، والمكان الصغير «فريلاند» إلى مساحة أوسع تمس وطنا «أمريكا»، وأرض الحرية «Freeland إلى أمريكا الحلوة «Sweet America. تغيرت البنية الروائية كلياً وأصبحت أكثر سلاسة وحركية بعد أن تم التخلص كلياً من غنائية الصيغة الأولى. هذا التريث والتأمل والكتابة والتحرير أعطى في المحصلة نصاً مميزاً. في كل المؤسسات الإعلامية التي مرت عبرها: فرانس 24، وراديو مونتي كارلو، وبيت الثقافة والفنون واشنطن، وملاحظات كوكبة من النقاد العرب المعروفين الذين اقتربوا من النص وساجلوه، والإعلامية الكبيرة فاطمة عطفة، والدكتور عبد الباقي الجريدي، وليامين، والطيب ولد العروسي، وسهيلة بورزق ، وليلى، وصافيا، وعبد الحق بلعابد، وحسن حميد، وغيرهم، وعشرات القراء، ظلت زينب منصتة بكل تواضع للملاحظات الصغيرة والكبيرة، وهو ما ساعدها على تحديد طبيعة روايتها التي أجمعت مختلف الرؤى على قيمتها، ليس فقط في بنيتها الحرفية، ولكن أيضاً في موضوعها الذي خرج عن الثنائيات الاختزالية التي سيطرت على الثقافة العربية، إذ تضع الشريرين من جهة والجيدين من جهة ثانية. وهذا ما قاومته زينب في روايتها وافترضت شخصيات أقرب إلى الحياة، ووضعتها في مدارات صعبة منها العنصرية. العنصرية إفراز لصيرورة مجتمع في مواجهة حداثته المعطوبة. هي ليست حرباً بين الملائكة والشياطين، ولكنها حرب تدور أحداثها في الأرض وبين مختلف النوازع البشرية التي تشكل محوراً أساسياً في هذه الرواية. فقد دخلت زينب في عمق المجتمع الأمريكي من خلال إقامتها في لوس أنجلس لمدة أكثر من سنتين، أدركت من خلال ذلك جوهر صعوبات أكبر ديمقراطية في العالم. من أقصى الفرح والحق، إلى أجهزة الإتابليشمنت في تقاسم العالم وحركة مختلف اللوبيهات التي تحول الناس في أمريكا إلى مجرد وقود لأهدافها ومبتغاها.

ولعل أهم ما يثير الانتباه في بنية الرواية هي جملها القصيرة المثقلة بالمعاني، المجردة من الزوائد البيانية التي كثيراً ما تثقل النص لأن القارئ عالمياً اليوم يذهب مباشرة نحو ما تريد الرواية قوله. في محاورة للكاتبة حول هذا الموضوع، في معرض أبو ظبي الأخير، قالت زينب: «اللغة ليست فقط وسيطاً تعبيراً ولكنها جهاز حي يقوم بوظيفة الإقناع الجمالية. ما نريد قوله في هذا السياق، وهذا لا يتناقض مع الشعرية التي تعني الإحساس العميق الذي ينشأ داخل الشبكة اللغوية في دقتها واقتصادها. لكن اللغة الشعرية؟ لقد رفضت الكاتبة «الغنائية» المفرطة التي تربك النص وتقتله وتبعده عن سرديته التي هي جزء طبيعي من خاصيته. لا أحب، كقارئة على الأقل، الكثير من الكتابة النسوية التي أفقدت السردية جانبها القصصي والحكائي» هذا لم يمنع «سويت أمريكا» من أن تنشئ لحظات ساحرة، من خلال العلاقة العائلية الرباعية بين جيل وكايا ويامي نويمي. ارتفعت الشعرية درامياً، بالمعنى التراجيدي، إلى الأقاصي لحظة اغتيال الصغيرة يامي بعد اغتصابها. أعتقد أن القارئ الذي دعته الروائية للدخول إلى عمق عائلة أمريكية مركبة ثقافة ووعياً يخرج بجرح داخلي رافضاً لوحوش العنصرية والقتلة. كايا لا تقبل لأنها من أصول هندية، وصديقه فريديريكو من أصول أمريكية لاتينية، البنتان اللتان تم تبنيهما من أصول مختلطة، نويمي يمنية من أصول يهودية، يامي مسلمة من أصول أفغانية. استطاعت زينب أن تجمع هذا العالم المعقد وتدخله في النسق الأمريكي العام خارج مدارات الهويات القلقة والأصول، لكن مجتمع «الأبيض المتفوق» الذي يبني مشروعه على كراهية الآخر ينتقل من التهديد إلى الجريمة، على اختلاف أبطال الروايات العربية المهاجرة التي تم فيها بناء الشخصية داخل منظومة الاغتراب والغربة، بوصفها ابنة الأرض التي جعلها العنصريون ضيقة. جيل ليس مهاجراً تقليدياً قادماً من أرض أخرى، فهو أمريكي بكل المقاييس، وضحية نظام «سويت أمريكا» الطاحن.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي