«كتاب الأسفار» لعبد الله إبراهيم: الغرب… المشاهدة والأسئلة والتأويل

2022-06-28

رامي أبو شهاب

يحتمل الترحالُ معنى مغايراً لفعل السكون، فالترحال بغض النظر عن دوافعه وأهدافه يبقى إضافة ذات دلالة، وأثرا، ومن هنا، فإن ذاكرة الترحال تستند إلى الطارئ والمختلف والمدهش، كما أنه جزء من فعل التوقع، ومراكمة التجربة. والارتحال لا يتعلق بالزمن بصورة مباشرة – على الرغم من أهميته- غير أن المكان يبقى الجزء الأهم، فعند السفر تواجه الأمكنة الجديدة، وتعاينها، ربما توافق متخيلك وتوقعك، أو تدفعك للخيبة… وربما تحبها أو تكرهها، أو ربما تبعث فيك أسئلة كبرى؛ ولهذا فإن أدب الرحلات يعد تقاطعاً على مستوى الذات والجغرافيا الثقافية، كما أنه يستجلب أفقاً يتجاوز البعد الوصفي، أو ذلك التتبع السردي لما هو أكثر أهمية، ونعني الرؤية التي تخلعها على المكان، أو ما يمكن أن يضيفه المكان عينه للوعي، والقناعات، لكن الأهم تلك الإحالات إلى بعض المستويات التي يمكن أن تقترب من الفكر عند التعمق في قضية هنا أو هناك، ولعل هذا ما يمكن أن نختبره في كتاب الناقد والمفكر العراقي عبد الله إبراهيم بعنوان «كتاب الأسفار» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2022.

الأسفار كنايات الدوافع

تنهض رؤية الكتاب على الدوافع المؤسسة لهذه الرحلات، التي تحكمها رؤية ما على مستوى التكوين، وهنا نستعيد علاقة الكاتب بالمكان، وما يشكله انتماؤه من إشكاليات حالت دون ممارسته، أو تأخيره لدول أو نطاقات معينة (الغرب) بما يحمله من إشكاليات ذاتية وحضارية، فهذه الرحلات تختلف عن سفر المضطر والمرتحل واللاجئ. إن تجربة اغتراب عبد الله إبراهيم ذات السياقات الخاصة ليست جزءاً من متن هذا الكتاب، كونها لا تحتمل مطابقة المعيارية التي ينهض عليها الكتاب الذي خصص لمجموعة رحلات قام بها المؤلف، وتشمل غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في حين أن تجربته مع بعض الأمكنة اندرجت في سيرته الذاتية التي حملت عنوان «أمواج».

اختيار الوجهة الأولى يحتمل الكثير من المعاني – كما أشار المؤلف- الذي بدأ رحلته إلى إسبانيا التي يتنازعها تاريخان، لتبدو جزءاً من اكتشاف الذات كما البحث عن بقية الأثر، هكذا تبدو لنا إسبانيا مدخلاً لقراءة ثقافية تتصل بالمكان ومكنونه الجدلي، ومن ثم لا تلبث الرحلة أن تمتد إلى أجزاء أخرى: فرنسا وبريطانيا واليونان… بما تحمله من معاينات تتصل بالمتاحف والأصدقاء، فضلاً عما هو غريب وجديد، لكن بين ثنايا هذه التنقل ننزاح في انتهاك واضح عن خطية السرد والحدث، نحو استذكار التاريخ، وما يتعلق بهذا المكان، أو ذاك، فيمسي الكتاب استجلاء لأحداث وشخصيات عبرت التاريخ، بيد أنّ استدعاء محكيتها أضاف بعداً جديداً للتحقق من بعض العلاقات الحضارية، وهذا ما ينسحب على زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، مع التعريج على خصوصية تتصل بهذه الدولة التي تعدّ بلد الحرية، على الرغم من تاريخها الاستيطاني، وهنا تبدو الحوارات التي يقيمها الكاتب مع بعض الأصدقاء الأكاديميين، جزءاً من محاولة إدراج مروية أصحاب المكان.

تبدو المعاينة جزءاً من محاولة اكتناه الإحداثيات بتكوينها المتعدد، فالرحلة ليست مجالاً للاستمتاع حسب، إنما هي لاختبار حساسية المكان على الإنسان، وما يمكن أن يضيفه للعالم؛ ولهذا تبدو الرحلة مسكونة بظلال الأثر التاريخي للأمم، وثنائية القاهر والمقهور، علاوة على تحركها في الزمن، ليمضي السرد في مجال من التأويل لمواقعة الحدث التاريخي على ضوء الارتهان للبنية الحضارية، التي تتجسد عبر المنظور المادي، كما البنية السائلة.

إن المرتحل يبدو قائماً في الصيغة التي يسعى من خلالها إلى استجلاب كل ما يكمن من جدلية التاريخ البصري، وتبني وجهات نظر لا تعتمد أحادية التّصور أو المنطوق الأيديولوجي؛ ولهذا نرى أن عبد الله إبراهيم في حواراته مع قاطني تلك البلدان يتقصد ذلك، ويبني عليه سرديته التي ينعتها بأدب الترحال، فالهدف ليس التخييل، كما لا يوجد قوالب جاهزة، أو محاولة إثبات قضية ما، أو دحضها إنما هي يوميات تتصل بالأماكن التي يحيطها التفسير والتأويل، بما يكتنف ذلك من متعة، وقوام ذلك اللغة من منطلق فرادتها مقابل الصورة، وهكذا فلا جرم أن يخبرنا عن مراحل تدوين هذه اليوميات، بما في ذلك التسجيل والتحرير والانتقاء تبعاً لوعي واضح.

المشاهدة: الحكاية والتاريخ

ثمة تمييز بين كتابة الأسفار والكتابة التاريخية، فالأولى تعتمد العين، وما يثيره المكان من الأسئلة، وهي محاولة لمقاومة النسيان، وفيها تبدو الذاكرة جزءاً من تكوينها، وبنيتها العميقة، ولاسيما حين تطغى المشاعر والانطباعات، أما التاريخ فشهادة مباشرة تعرضت للكثير من عوامل الغربلة، والأهم محاولة الإحاطة بالحدث في تجلياته الوظيفية.

يقيم الكتاب تصوره للأسفار في مواجهة كتابة شتراوس، وما يكمن من تمايز بين الغاية والأسلوب، حيث نرى أن كتاب إبراهيم يعتمد المزج بين المعاينة والتجربة والاكتشاف… فيتذوق المكان، يراه فيعيد تكوينه، وفي بعض الأحيان يجنح بنا لمحكية تاريخية تثيرها الأمكنة والتجربة الذاتية… يبحث عن نقاط التقاء أو افتراق، أو يسعى لأن يعيد إحياء شيء عميق مدفون في لا وعي المرتحل، في حين تبقى قيمة الوصف جزءاً من ماهية هذه الكتابة، بالتوازي مع تتابع السرد، ومن ذلك نقرأ: «وفي أعلى البيازين اغتسلت من البئر العربية التي عرضت لي، واحتسيت الماء من صنبورين فضيين يتدفقان، وأخذت ارتقي الدروب صعدا إلى سفوح الجبل المقدس «سكرومونتي» ففي كهوفه طُمرت كتب الرصاص حتى خلتني أرى أثراً لها، وهي ألواح نُقشت عليها نصوص باللغة الألخميادية، أي الأعجمية المكتوبة بأبجدية عربية، لكن بألفاظ إسبانية، وتداخلت فيها القيم المسيحية بالإسلامية بهدف حماية المورسكيين من الانتقام الذي اشتد ضدهم بعد سيطرة الإسبان على شبه اللغة الإيبيرية».

ينطوي الكتاب على رؤى تتعالق بتأويل المشاهدات، وما يكمن خلفها كالتفوق الحضاري، والغزو، والاستعمار، كما التمايز العرقي، بالإضافة إلى المركزيات، وجلها وليدة المكان الذي يدفع للبحث في ما وراء حكاية بقعة ما قد تكون كنيسة صغيرة، وفي بعض الأحيان قد تكون قارة بأكملها، ومن ذلك حديثه عن التفوق الحضاري الغربي: أوروبا والولايات المتحدة، فالأولى تتعرض لنقد دعواه يتحدد بما أقدمت عليه من استباحة العالم، وتقويض حضارته، وهذا لا يكاد يختلف عما حصل في الولايات المتحدة حين قام المستوطنون الأوروبيون بإفناء السكان الأصليين، ومحو ثقافتهم، وتأسيس كيان جديد، علاوة على حيازة خطايا أخرى حين سعت لغزو دول كالعراق وأفغانستان، وهكذا يتعمق إبراهيم في تحليل نشأة هذه القوى، واستجلاء الكثير من حيثيات تكوينها، عبر ما يراه من مشاهدات أو حوارات، وما تحكيه المتاحف والكنائس وغير ذلك.

في الكتاب الكثير من الآراء التي تحفزها تلك المشاهدات بما تنطوي عليه من قضايا ذات بعد جدلي؛ مما يتطلب وعياً عميقاً للإحاطة بها، وهذا يعني أن هذه الثيمات على مستوى التلقي قد تتجاوز الاكتشاف لتمسي جزءاً من التفكير الذي لا تغادره المتعة.

معاينة الأسئلة وحدود التأويل

ولعل ما يميز الكتاب تلك الانتقالات التي تستجلي الممارسة القائمة على الغزو والتدمير والخراب، وهي نهج يتوقف المؤلف عنده متأملاً في كثير من المواضع، سواء أكان في التاريخ القديم أم الحديث، وكأنه مسكون بما عاناه وطنه العراق من غزو، فلا جرم أن تدفع بعض الأمكنة لبيان ذلك، والتعليق عليه، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر مدينة «دلفي» ومعبدها حيث يقول: «تلك هي صفحة المجد في تاريخ دلفي، لكن صروف الدهر قلبتها إلى أخرى معتمة، بانطفاء جذوة الإغريق راح الزمان يغدر بدلفي ومعبدها». ولا يبتعد عن هذا النهج في كثير من المواقع التي تكتنفها ذكريات الغزو، وما يجريه من خراب، وتدمير، وارتحال، فلا جرم أن نقرأ عن رحلته إلى أمريكا، وما شهده هذا البلد من نفي لتكوينه الأصلي حيث يقول «لا يجوز قطع تاريخ تلك البلاد عن أصلها القديم، وكأنها لقيطة، فذلك كتم لذاكرة، وقول بابتكار تاريخ أبيض من عدم، لا تغيب عن قوة التاريخ الاستيطاني، فقد صان نفسه من الارتياب، وحمى ذاته من الشك مثل الكتب المقدسة، التي ما عاد متاحاً إعادة النظر في كتابتها، فالتاريخ الاستيطاني لا يقبل ما يتخلله وينتفع به. غير أنّ البصيرة الجسور تفضح تحيزاته، وتطعن في شرعيته، وتزعزع قواعده».

فلا جرم أن تسبق ذلك قراءة تحليله لظاهرة الاستيطان، وآليات عملها بوصفها جزءاً من هذا النهج الذي يأتي بغية إقصاء المكون الحقيقي لأصحاب الأرض، فالرجل الأبيض مارس ذهنية احتواء كل ما هو فوق الأرض، وما تحتها، بما في ذلك السكان الأصليين، كما العبيد الذين استجلبوا لأغراض اقتصادية، وبهذا فإن هذا البعد يتخذ قيمة مضاعفة لهذه اليوميات التي اكتنهت هذه الظاهرة؛ مدفوعة أيضا ببيان العوامل العلمية التي سوغت هذه الأمر، نظراً للتطور العلمي والنهضوي الغربي الجارف.

لا يمكن أن نحيط بكل ما في الكتاب من رؤى ومشاهدات وتحليلات، كونها تتسم بالتعدد والاتساع والعمق، غير أن عبد الله إبراهيم يختزل ذلك في الصفحات الأخيرة في بعدين: الديني والإنساني، وما يكمن بينهما من جدل، فلا جرم أن يصرح بذلك قائلاً: «وإذ أطوي كتاب الأسفار إلى أوروبا وأمريكا، فأباشر طرح الأسئلة عن الغرض من رحلات أخذتني إلى بلاد كثيرة، ومنها السؤال الجوهري الذي تخلّل صفحاته، وباستثناء رحلة أمريكا التي تغلّب الاهتمام فيها بالظاهرة الاستيطانية، وما عدا ما مررت به من زيارة المتاحف، والقصور، والقلاع، والمروج، في أوروبا، فقد استأثرت الكنائس بحصة الأسد في هذه الأسفار». لكنه سرعان ما ينتقل ليضع لنا تصوّره بخصوص الظاهرة الدينية، وأثرها في الإنسان، وما يمكن أن تحتمله من رؤية تعتمد شيئاً من التأمل؛ انطلاقاً من أن هذا الكتاب ليس سوى تجوال في البعد المكاني، وما يكمن خلفه من أفكار وسمت هذه الجغرافيات، مع شيء من التحليل والكثير من التأويل، لنخلص إلى مقولة تختص بظاهرة أفول الظاهرة الدينية في الغرب من مبدأ الانفصال والاتصال، فالعلاقة مع الدين علاقة عمودية مبنية على الاختيار، وهذا جاء ردة فعل على هيمنة الكنيسة، وطبيعتها الاحتكارية، في حين أن هذه الظاهرة – من وجهة نظره- تبرز في العالم الإسلامي بصورة مغايرة، فالعلاقة أفقية، إذ يكون الفرد جزءاً من الجماعة بما يحتمله ذلك من بُعد معقد؛ قوامه الانقياد أو التشكيك كما الترغيب أو الترهيب، ومن هنا ففعل الانقياد للجماعة قد يكون شكلاً من أشكال الحماية، والأخيرة تحدد التصور المتعالي، بيد أن العلاقة قد تنحرف من الاختيار إلى الإجبار – كما يقول- وبذلك فإن معيار الحق والباطل قد يتعرض للتشوّه.

وفي الختام، فإن ثمة في الكتاب الكثير من الآراء التي تحفزها تلك المشاهدات بما تنطوي عليه من قضايا ذات بعد جدلي؛ مما يتطلب وعياً عميقاً للإحاطة بها، وهذا يعني أن هذه الثيمات على مستوى التلقي قد تتجاوز الاكتشاف لتمسي جزءاً من التفكير الذي لا تغادره المتعة.

كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي