حسن عبد الله: مراوغة الحداثات

2022-06-27

صبحي حديدي

في عام 1981، حين صدرت «الدردارة»، مجموعته الأشهر والأبرز، لم تكن قصيدة الشاعر اللبناني حسن عبد الله (1943 – 2022) في صفّ الأقليّة، كما سوف تمكث خلال عقود تالية؛ فقد كان الكثير من الشعر العربي يُكتب على غرار قصائد تلك المجموعة من حيث الشكل، وكان يواصل ترسيخ أعراف أغلبية تلك الأيام، أي قصيدة التفعيلة التي تركت شعر العمود رهين حفنة محدودة من صانعين مَهَرة كانوا أقرب إلى قلاع الدفاع الأخيرة منهم إلى خنادق الهجوم المضاد. وحين كان عبد الله في صفّ الأغلبية تلك كتب كشاعرٍ طفل، ثمّ واصل الكتابة في الحال ذاتها حتى حين أدرك أنه بات ينضوي في صفّ الأقلية، بعد أن اشغلت قصيدة النصر موقع الأغلبية. لقد قاوم اغراءات أن «يكبر» حين كان الزمن الشعري والتاريخي في صالح فريقه وكانت للأغلبية شوكتها وسطوتها وجاذبيتها، ثمّ قاوم مقتضيات أن يكبر في صفّ أقلية تعيش زمناً شعرياً وتاريخياً قُلّباً، يتطلب دهاء الكبار أكثر بكثير من مشاكسة الأطفال.

وفي سنة 1999، وبعد امتناع عن إصدار مجموعة جديدة امتدّ على 18 سنة، وبعد 60 «كتاباً للأطفال بين شعر ونثر» كما ظلّ يعلن، أفرج عبد الله عن «راعي الضباب» التي ضمت 47 قصيدة مخصّصة للكبار هذه المرّة. يقيني الشخصي كان، يومذاك كما اليوم، أنّ معظم تلك القصائد كانت تبيح لبعض القراء الحقّ في التساؤل التالي: ولماذا لا تكون هذه المجموعة الشعرية الثالثة، للكبار رسمياً، بمثابة الكتاب الـ61… للأطفال والكبار في آن معاً؟ أو، أيضاً، لماذا لا يكون ذلك الطراز من الشعر بمثابة وسيلة تعليمية لتضييق المسافة بين قرّاء الشعر الكبار وقرّائه الصغار؟ وبمعزل عن الخوض، المفيد أو السفسطائي، في الإشكاليات التي تكتنف علم اجتماع آداب الكبار مقابل آداب الصغار، أُتيحت لي أكثر من فرصة واحدة للمساجلة بأنّ شعر عبد الله تمتع طويلاُ بامتياز خاصّ تماماً، تمثّل في أنّ صاحبه اختار أن يكون طفلاً كبيراً منذ البدء، وهكذا عزم على البقاء؛ وهكذا مارس فتنة عالية على قارئ مثلي منذ أن قرأته للمرّة الأولى أواسط سبعينيات القرن المنصرم. راعي الضباب» أعادت ذائقتي، ولست أتحدث هنا إلا بمعنى شخصي وفردي، إلى تقاليد في الكتابة الشعرية باتت مفتقَدة في كثير أو قليل، وانقلبت إلى خيارات ضائعة أو مضيّعة؛ كان قوامها التعبيري قادراً على الرنين في الوجدان التلقائي الفسيح بعد تذليل الأذُن المصنّعة الضيّقة، وكان مبناها صنواً لصيقاً بمعناها، يشدّ أحدهما الآخر دونما حاجة إلى التحكيم بينهما، ولا إلى إعمال الحكمة بين الشكل والمحتوى. ففي «راعي الضباب» نقرأ التالي: هنالك دائماً نورُ/ لنجمٍ/ يرفع الظلمات عنّا وهو مستورُ/ هنالك دائماً قوّة/ ترافقنا/ وتدركنا ونحن على فم الهوّة/ هنالك دائماً حبُّ/ يفاجئنا/ بدفءٍ غير منتَظرٍ/ إذا ما أقفر القلبُ/ هنالك دائماً نسمة/ تهبّ على جروح الروحِ/ حتى تنجلي الغمّة/ ونحن نعيشُ/ ما ينفكّ يحرسنا/ ويلمسنا بلطفٍ غامضٍ ما ليس مرئيا/ وإلا/ ما الذي يبقي الفتى حيّا؟». عسير، عند اختتام هذه السطور، ألا يعود المرء إلى عبد الله «الدردارة»، في المناخات كما في المحتوى والشكل: « الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/ يقيم دقيقتين على سفوح العين/ ثمّ يعود في سرفيس بيروت ــ الخيام/ سلّمْ على… سلّمْ على/ يا أيها الماء التحية/ أيها الماء الهدية/ أيها الماء السلامْ».

تأرجح القارئ بين حالة عاطفية وأخرى إنما تصنعه معادلات فنّ شعري راوغ الحداثات، واغترب عن زمانه كثيراً؛ ولكنه ظلّ ذلك الفنّ الذي ينفخ الحياة في النصّ، ويدنيه بإلحاح فريد من جنس أدبي واحد هو الشعر

وفي أواخر القرن العشرين كان قد مضى زمن طويل منذ أن تجاسر شاعر عربي على زجّ مفردات مثل «نور» و»قوّة» و»حُبّ» و»غمّة» و»لطف» في شبكات دلالية عفوية ومألوفة ومشحونة وجدانياً في آن معاً، غير مرتدع من لائحة الاتهامات التي قد تبدأ من الميوعة العاطفية والميلودراما، ولا تنتهي عند الكليشيه والفقر التعبيري. وفي رأس الحكمة التي أشاعتها معظم الحداثات العربية المعاصرة استقرتّ تلك «القواعد الذهبية» التي انقلبت إلى نواهٍ كبرى من الأصناف التالية: أَخْرِسوا العواطف! اكبحوا جماحها! راقبوا انزياحها! لكنّ عبد الله لم يخرق تلك القواعد طولاً وعرضاً فحسب، بل لقد تعمّد تسفيهها كلما سنحت سانحة عابرة: على نحو هادىء مقصود تارة، أو صارخ متغافل طوراً. إنه عاشق ظافر هنا، وعاشق كسير هناك؛ فلاح سعيد مرتاض في جغرافية رعوية سعيدة، أو موظف حانق مضطهد في مؤسسة بيروقراطية فاسدة؛ ابن ضيعة الخيام حيث الشمس أبهى من «هذه الشمس التي تصلنا/ منهكة عرجاءْ/ عبر بناءٍ راكبٍ على بناء»، وابن صيدا التي تبدّلت وباتت موحشة ليس فيها صوت «سوى صدى ارتطام المال بالرجالِ/ والرجال بالمالِ».

وفي تحرير الدفق العاطفي من أيّ رادع أو كابح، جازف عبد الله بالوقوع في شرك المجّانية المكشوفة، خصوصاً حين لا يتضح تماماً إنْ كان جادّاً أم مازحاً، حزيناً أم فرحاً، باكياً أم ضاحكاً! واللعبة هنا ظلت مُحكمة لأنّ القسط الأكبر من تأرجح القارئ بين حالة عاطفية وأخرى إنما تصنعه معادلات فنّ شعري راوغ الحداثات، واغترب عن زمانه كثيراً؛ ولكنه ظلّ ذلك الفنّ الذي ينفخ الحياة في النصّ، ويدنيه بإلحاح فريد من جنس أدبي واحد هو الشعر.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي