صراع الذات في رواية «متسلّل نحو المتاهة» لبدر السويطي

2022-06-26

علي لفتة سعيد

رواية «متسلّل نحو المتاهة» لبدر السويطي، من ثيمتها هي أنها غاضبة.. تبدأ من عنوانها الغاضب إلى لغتها إلى أسباب كتابتها..فكل شيء فيها غاضب من حيثيات الروي وما تحتويه من مسببات الغضب والفعل وردة الفعل.. الغضب على واقع غير الواقع العربي المكشوف في تفاصيله لما بعد التغيير، لكنه يدخل ضمن الغضب العربي على الوجود الإنساني.

فالغضب هنا غضب تجميعي.. متراكم.. متوزّع وحتى متشظٍّ إلى عدة أجزاء وله عدّة مسببات سواء منها السياسي أو الاجتماعي أو البيئي..ولهذا احتاج السويطي إلى تقنيات متعددة ليربطه بما مرّ به شخصيا أو شخصية الرواية، سواء جاءت هذه التقنيات التي استثمرت الفكرة عبر حكاية السيرة أو السرد، فكلاهما أنتجا رواية يبدأ فيها الغضب من روح المتاهة وما تسلل عنها.. وسواء كانت السيرة ـ الرواية هدفها تفكيك الغضب، أو أنه يسرد تاريخا مرّت به شخصيات الرواية فإن الفعل العام كان يمر عبر ثنائية الحكي والغضب.. لأن الأمر لم يكن متخيلًا عبر فكرة منتقاة من لحظة التخيل حتى لو كان واقعا، بل عبر فكرة واقعية تماما فحوّلها إلى حبكة ومتن يجد فيها المتلقي شيئا ملموسا من الغضب، لأنه تحسس معاناة الشخصية التي تحركت عبر أماكن عديدة، بحثا عن الهوية المفقودة.. ولهذا فإن الأماكن التي مرّ بها هي أماكن بعضها يعيش فيها الغضب وتنتجه وبعضها وجد الغضب وجوده فيها،.. فما بين الكويت والعراق وإيران، ثم فيينا وألمانيا وسويسرا وهولندا ليستقر في ألمانيا هي أماكن هجرة متعددة، خاصة أن الحدث لم يكن ضمن مرتكزات المتغير العربي، إذا ما عدت الفترة الزمنية هي ما بعد عام 1990 وغزو الكويت فإن التدوين كان ضمن مرحلة المتغير العربي، وبعد الاستقرار النسبي الذي حصل عليه الراوي/البطل/ الشخصية/الروائي كفرد يتحدث عن سيرة بطريقة الروي/وهذا لا يفرق عن الذين يلجؤون إلى الماضي والتاريخ لإنتاج رؤية الحاضر أو الزمن الراهن.. رغم أن الروائي لم يجعل راويه يهرب إلى الخلف، ولا يتقدم إلى الأمام بل هو في مرحلة استذكار لما هو ماض له، وهو ماض مليء بالخيبة واليأس والتيه وهذه كلها تنتج الغضب حتى عملية التدوين.

طرق التدوين وتفاصيل الفكرة

تتمركز طريقة تدوين السويطي لنصوصه الإبداعية على فرضية ما تمنحه الفكرة من مقاربة مع نصّ أو مقولة أو حكمة، يقوم بتركيبها وكأنها الضوء الذي يمكن أن يسلط على ما سيأتي ليتمكّن المتلقّي من البداية في معرفة تفاصيل الفكرة.

فاللعبة تبدأ عنده في البحث عن كينونته/ المشابهة مع كينونات أخرى تشابهت معه في المحنة.. البحث عن رؤية من داخل ما شكّله الألم في التجربة الحياتية.. ولهذا فما بين حكمتين أو مقولتين تأتي المقدمة في الرواية، فالحركة المتوالية لا تبدأ بالمقدمة، بل في المقولتين التي سبقت المقدمة مثلما لا يبدأ استهلال الرواية بفصلها الأول، بل في المقدمة التي جعلها الروائي لسانه المبثوث لما يمكن أن يقوله الراوي في متن سرده عبر فصول الرواية المتعددة.. فالمقدمة تابعة للروائي مثلما هي المختارات أو المجتزءات التي يضعها في فصوله، في حين ينسلّ الروائي، ويعطي المجال لراويه أن يكون هو المتحكّم في حركة الشخصيات وتثوير الصراع وبناء منطقة القصد وتراكم التأويل، وبالتالي إنتاج منطقة فلسفية لما يمكن أن يرتبط بتلك الكينونة التي يبحث عنها في مردّ المعاني التي تصب كلّها في المجال الإنساني وصراعه مع الآخر، سواء كان مكانًا أو سلطةً أو فكرةً قاتلة.

ففي الأختيار الأول يأخذ مقولة خالد الأمين (متى يدعو الله رعاياه لمغادرة هذه الأرض التعيسة) وهي مقولة يمكن بناء منطقة القصد التي ستتحرك في داخلها ثيمة الرواية، التي تحتاج إلى مقولة أخرى جاءت من عنديات الروائي (إن اللجوء حالة يلجأ إليها الإنسان وهو في أسوأ حالاته) وهي منطقة أخرى من مناطق القصدية الثيمية للرواية، التي تتوضّح بشكلٍ كبيرٍ من خلال المقدّمة التي يكون استهلالها (كل ما أريد فعله هو السيطرة على هذه الذاكرة المثقلة بالأحداث والآلام، لقد أحدث اللجوء في داخلي انفجارا مدويا شبيها بانفجار هيروشيما ونجازاكي) وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقا بما تم اختياره من مقولةٍ مشهورةٍ وما دوّنه الروائي عن ذاته كمقولةٍ تكون عتبةً ملاصقةً، تبدأ بالعنوان الرئيس وما تم اختياره وما كتب في المقدمة.

إن عملية التنقل التي رسمت طريق المتاهات التي أعلنتها عتبة العنوان الأولى تنقل لنا تلك الصراعات التي صادفت عملية الانتقالات المكانية التي توجتها التواريخ المبثوثة بواقعيتها وحقيقتها.. لا مكان بلا صراع لإثبات الوجود ليس من ناحية الهوية التي تبحث عنها الشخصية في مراحل الطفولة، بل إثباتها من أجل الاستمرار بالعيش.

إن بنية الكتابة في الرواية التي قسّمها الروائي إلى خمسة فصول، وكل فصل موزّع بين عدة أقسام وقد تابع فيها الطريقة ذاتها هي اختيار مقولة أو نصّ شعري ليبني عليه مدوّنته التي تقترب من السرد وتدخل في روح المذكرات والعكس صحيح.. فهي حركة متوالية من فكرة يراد لها أن تتشعب، وأن تأخذ مقاساتها الذاتية عبر مدلول اللجوء لإنتاج دال العذاب المعنى له بطريقة استحضار الماضي إلى الحاضر وأخذ الحاضر إلى الماضي، ليكون المستقبل قابعا في عملية البحث عن تأويل الفكرة وحركة البطل/الراوي الذي ينتج لنا متنا سرديا بطريقة المتكلّم، التي تفسح المجال في بعض الأحيان إلى طريقة المخاطب لإنتاج نوعٍ من الترابط بين الراوي والمتلقّي، على أنه يكتب ذاكرة الجميع.

تبدأ الرواية من ذاكرة الطفولة والمكان وتعسفه كما يصفه وهو الكويت.. ولهذا يحتاج إلى عملية مطاردة للذاكرة عبر استرجاعات مكثّفة تارة وشارحة تارة أخرى للمتن، أي أن مفردته التي تنبني عليها عملية التدوين الكتابية هي شارحة لما يعتري الكينونة من صراعات الذاكرة حول الزمان وصراعات المكان في تكوين الذات وإن كانت قد بدأت بالطفولة، خاصة أن المفردة تحمل شاعرية سردية، وكأنه يريد منح الجملة جماليتها الدالة على الصراع مع الذات والبحث عنها.

الكينونة والمتاهة

إن عملية البحث عن الكينونة في المتاهات التي تسلّل إليها البطل لم تكن مجرّد سيرة ذاتية، بل كانت تحمل معها الآراء المتوثّبة في الجانب السياسي والاجتماعي، وهي آراء لا تخلو من عملية جلد الذات تارة وعملية الإشارة إلى المعاناة التي تسببت بها البدايات الأولى في المكان الأول والواقع السياسي الأول، وقبلها الوجود الكينوني (البدون) في الصراع مع الآخر، سواء الحكومي منه أو الاجتماعي، ولهذا فإن عملية التدوين وقيادة الفكرة انبنت على ما تمنحه المفردة واللغة الشعرية في المتن السردي، حتى تكاد تجد تلك المتاهة في التلاعب بالمفردة، هي ذاتها العالقة في المتاهة السردية، ليس بمعنى التيه منها، بل بمعنى تفكيكها إلى وحداتنا، المتنقّلة بين عوالم متعدّدة، وتحدث بينها المقارنة بين الماضي والحاضر للبحث عن الحلول والإقامة،مثلما يمكن أن نجد المفردة التي تمنح المتن دفقا معنويا مرّة وشعريا ثانية، يتداخلان في المستوى التحليلي للواقع، خاصة أن المستوى الإخباري يقود المفردة الصانعة للجملة المتوهجة لكي يعطي المستوى القصدي معناه وقامته،وهو ما يمكن أن يوضح نوعية المفردة داخل الشخصية وانتمائها للثقافة، حيث يستخدم الروائي طريقة بثّ النصوص الشعرية، سواء منها النثر أو التفعيلة أو العمودي في مقاربة مع الأصل الذاتي، وهو هنا يخرج من سياق التدوين السردي إلى سياق التدوين المعلوماتي، في عملية ملاقحة ومقاربة بين السيرة السردية وسرد السيرة، ليس في اجتراح شكلي جديد، بل لأنه يمنح الحرية له، لكي يعبر عن تلك الانثيالات والأصول في مواجهة المتاهة، وما تسلّل منها في الكينونة الضائعة التي لم تجد نفسها حتى في عملية اللجوء، لأن العنوان لا يشِي بغير ذلك، فيأتي المتن مكمّلا لما يمكن أن يعطيه التأويل مقاصد أخرى للمتلقي.

إن عملية التنقل التي رسمت طريق المتاهات التي أعلنتها عتبة العنوان الأولى تنقل لنا تلك الصراعات التي صادفت عملية الانتقالات المكانية التي توجتها التواريخ المبثوثة بواقعيتها وحقيقتها.. لا مكان بلا صراع لإثبات الوجود ليس من ناحية الهوية التي تبحث عنها الشخصية في مراحل الطفولة، بل إثباتها من أجل الاستمرار بالعيش.. ففي كل مكان ثمة اختلاف وتصارع تنقل على لسان الراوي بطريقتين، الأولى: عبر سلوك الحكي المباشر الذي لا يغادر لغة التدوين المذكراتي، الثانية: الروي السردي الذي يدخل في المتن اللغوي للمفردة الصاعدة في توهجها الشعري.. وهنا في هاتين الخاصيتين لا يرسم فقط تلك المعاناة للخروج منها، بل يستغلها لمنح المكان بعده الميثولوجي والتاريخي، وحتى الفلكلوري والطبائع التي تعيشها المجتمعات التي وفد إليها، لذا يسعى بطريقة الإخبار تارة، والتحليل تارة أخرى إلى رسم تلك المعالم التي تحيط بالمكان، التي يراها قريبة لأنها وهي متنوعة بحسب الطبائع والصراع، اللذين يوجدان حيث تكون المتاهات والاستغلال والرشوة والبحث عن كينونة أخرى لثبات الحياة والعيش، وهي انثيالات تستمر في الطريقة التدوينية ذاتها لكل الفصول الخمسة، ليتوّجها بتلك النهاية التي تعطي دليل مدلولها لما كان من ذكر في التدوين.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي