«ساعات كالخيول».. محمد خضير وعوالمه البديلة

2022-06-24

أحمد عواد الخزاعي

تعد تجربة محمد خضير الأدبية في القص العراقي فريدة من نوعها، فقد تفرد هذا القاص بأسلوبه (الواقع الافتراضي) المفعم بالغرائبية والعوالم البديلة، التي تدفع مخيلة القارئ إلى مديات بعيدة من الدهشة والتفكير والتحليل، وتدخله في أجواء ساحرة مبهرة تمثل صورة أخرى للواقع، عبّر عنها في نتاجاته الأدبية من خلال عدة مجموعات قصصية، كتبت بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي «المملكة السوداء» «في درجة 45 مئوية» «بصرياثا» «رؤيا خريف».. في قصة «ساعات كالخيول» وهي أحدى قصص المجموعة القصصية «45 مئوية» وأعيد نشرها في مجموعة صدرت له عام 1998 حملت اسم «تحنيط» وضمت عدة قصص نشرت في مجموعات قصصية سابقة.. تبدأ هذه القصة بتقنية (الاستباق) أي ذكر عبارة كانت هي في الأصل خاتمة لهذا النص (فأجده نائماً على فراشي، يدير وجهه للحائط، ويعلق عمامته الحمراء على المشجب).. سارد داخلي يمثله شاب صغير، يروي قصته مع ساعاته القديمة، التي ورثها من عمه الذي كان يعمل بحارا (ما زلت أملك حتى اليوم مجموعة من الساعات القديمة، تلقيتها من عم لي كان بحارا على سفن شركة أندروير)..

من هذه العتبة السردية، ينطلق بنا محمد خضير في عوالمه الغرائبية نحو الدهشة، مستخدما عنصر الزمن بكل دواله الحسية والمادية (الساعات، دفتر المذكرات، فصل الربيع، الماضي، الحاضر) هذا الزمن، شكّل محورا رئيسيا دارت حوله رحى السرد القصصي (الزمن المحشو كقطن قديم في حشية صغيرة).. ساعد في بلورة هذا المفهوم الإبراز الجميل لثقافة المكان كما عرفها فوكو (إخراج المكان من عالم السكوت إلى المنطق) كما في النص الاَتي (ثم ها هي أرصفة الفاو، تقود المصابيح جسورها الخشبية فوق الماء إلى مسافة، وترسو في الفسحات بينها زوارق متجاورة تتأرجح أضواؤها). إن اتحاد هذين العنصرين المهمين في السرد (الزمان والمكان) بهذه الطريقة الفنية الجميلة، جعل من الضرورة الخوض بمصطلحين سرديين هما (واقعية العمل السردي، وفنية العمل السردي).. حملت القصة تفاصيل تمثل حركة البطل داخل النص، وتصوير المشاهد ووصفها، والحوارات المقتضبة، ما جعل جزءاً منها يحمل سمة واقعية انطباعية إلى حد كبير.

يشكل أدب محمد خضير علامة مضيئة في تاريخ القص العراقي، وعليه يجب العمل على تحويله إلى منهجية أدبية، تدرس لذوي الأختصاص في هذا المجال، للحفاظ على ديمومته، خشية من حدوث أي قطيعة أدبية معه، تؤدي إلى اندثاره.

يقرر الشاب بطل القصة، حمل إحدى ساعات عمه القديمة العاطلة عن العمل في جيب سترته، فيدله (قهوجي) المقهى الذي جلس فيه، على مصلح للساعات القديمة يسكن مدينة الفاو، التي تطل على الخليج العربي، أقصى جنوب محافظة البصرة، مسرح أحداث القصة (الطريق إلى الفاو موحل، وما زلت اؤجل السفر، حتى كان صباح فيه مشمس، فاتخذت مكانا بين الركاب في باص، انطلق بنا محملا بالأمتعة).. كان كل شيء في النص يرتد نحو الماضي، ويخوض في الماضي.. الشوارع، الأبنية، الأسواق، بيت مصلح الساعات الذي تحول إلى اَلة كبيرة للزمن، مُلئت باحته وجدرانه بالساعات القديمة، التي تدق حسب التوقيت في كل بلدان العالم.. (ثم ضجت القاعة بالرنين: هل دقت سبعا؟ الليل في إندونيسيا.. أتميز الدقات الاثنتي عشرة الأخيرة؟ إنهم يغطون في سبات في أقصى الغرب من الأرض).. وقد رسخ حضور الماضي بكل تجلياته، القصص والحكايات التي رواها البحار القديم (مصلح الساعات) لذلك الشاب، عن رحلاته الغريبة، التي تعد انتقالة سردية في متن النص بين الواقعية الانطباعية التي بدأ بها، وحكايات غرائبية هي أقرب إلى الخيال، استحضرها البحار القديم، في عملية (استرجاع خارجي) كما عبر عنه الناقد جيرار جينيت، كان هذا الارتداد يمثل للبحار القديم، نوعا من التعويض النفسي عن حالة عزلة فرضها على نفسه في بيته، امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، تلك المشاهد شكلت واقعا افتراضيا موازيا للواقع، زج به القاص ليقدم لنا رؤية اجتماعية ونفسية مركبة، حين انتقل السرد من الشاب إلى ذلك البحار القديم، هذان الراويان الداخليان، اللذان تربطهما علاقة إيجابية نامية كما عبر عنها فوستر، شكلا حالة من التبئير السردي، كانا فيها في حالة انسجام مع طبيعة الشخصية المتحركة داخل النص (الراوي= الشخصية).. تلك الرؤية التي عرفها تودروف (إنها أهم شيء في العمل الأدبي، ففي الأدب لا نواجه أحداثا أو أمورا في شكلها العام، وإنما نواجه أحداثا معروفة بطريقة ما، وتتحد مظاهر أي شيء بالرؤية التي تقدم لنا عنه).. فقد أشارت تلك الرؤية الأدبية في جزء منها، إلى وحدة ثقافات منطقة الخليج العربي، والامتزاج الحضاري والفكري والإنساني بين سكانها، كما في قصة البحار القديم التي روى جزءاً منها إلى الشاب (تزوجت في البحرين من امرأة، أنجبت ثلاث بنات أعطيتهن لأبناء البحر).. وقد حمل هذا النص بالإضافة إلى سمة الواقعية الممزوجة بعوالم غرائبية، سمة فنية جمالية خلاقة، من خلال تقنية الوصف الدقيق للأشياء، واللغة المستخدمة في السرد، التي كانت سهلة منسابة، تتماهى مع الإيقاع السردي الذي طغى على النص، والمتسم بالحوارات الهادئة، والانتقالات السردية الانسيابية.. أما العنوان الذي يمثل مفتاح العمل، والعتبة الأولى لدخول عوالم النص، فإنه كان يعبر عن تداخل فكري عفوي حدث في مخيلة البطل الشاب، كنتاج لسماعه قصص البحار القديم (مصلح الساعات) في رحلاته الغريبة وعمله مع تجار الخيول عبر البحار، وصدمته واندهاشه لرؤيته الساعات الكبيرة والقديمة التي كانت تغطي جدران بيته وفناء داره (فتحت الغطاء، كانت العقارب تدب، أطبقت على الساعة راحة يدي، وأنصتنا للبحر يدوي في ساعات القبو، القوائم الرشيقة للخيول تجري في شوارع الميناء).

يشكل أدب محمد خضير علامة مضيئة في تاريخ القص العراقي، وعليه يجب العمل على تحويله إلى منهجية أدبية، تدرس لذوي الأختصاص في هذا المجال، للحفاظ على ديمومته، خشية من حدوث أي قطيعة أدبية معه، تؤدي إلى اندثاره.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي