«أم ميمي» لبلال فضل: «حواديت» العين المجبرة على التلصص

2022-06-21

محمد سامي الكيال

تمتلك رواية «أم ميمي»، للصحافي والسيناريست المصري بلال فضل، عناصر الجذب كافة، التي تؤهلها لأن تصبح علامة على نمط جديد في الثقافة الجماهيرية العربية Pop culture، فالعمل، الذي نشره مؤلفه في دار المدى العراقية، على الأغلب بسبب مواقفه السياسية، التي تجعل طباعة كتبه فعلاً غير مأمون العواقب لأي ناشر مصري، يسعى أساساً إلى تقديم «حدوتة» بالغة الصراحة عن حياة الطبقات الأدنى. و«أدنى» هنا ترد ليس فقط بالمعنى الاقتصادي والمعيشي، بل بالمعنى القيمي والأخلاقي أيضاً، وهو ما لم يكن فضل يستطيع تقديمه، بكل تفاصيله المؤلمة والقذرة، و«الخادشة للحياء» عموماً، في السيناريوهات السينمائية التي كتبها سابقاً عن حياة تلك الطبقات، مثل «خالتي فرنسا»؛ أو حتى في مقالاته الصحافية، التي سبق جَمعُها في كتب مثل «السكان الأصليين لمصر»، نظراً لخضوع الصحافة والسينما لمحاذير رقابية أكثر من الرواية.

ربما كان استخدام مفردة «حدوتة» الأنسب لدى الحديث عن «أم ميمي»، لأن فضل لم يسع إلى استغلال كثير من الإمكانيات، التي يوفرها له القالب الروائي، مكتفياً بسرد خطي اعتيادي، والتركيز على ثيمة «الشاهد»، وتجربته في عوالم وبيئات غرائبية. وربما هنا يكمن الجديد الذي أراد الكاتب تقديمه، فقد فُرض على الثقافة الجماهيرية العربية دائما طابع «النظافة»، الذي لم يعد مقنعاً في أيامنا، وفضل الآن يوظّف كل حرفته، بوصفه كاتباً بارعاً وشعبياً، لـ«يُخبر» المتلقي، أو بالأصح يفضح له، ما يُفترض أنه مستور ومسكوت عنه، عبر حكاية جذابة ومسلية وطريفة، أكثر من أن «يبني» له عالماً روائياً غنياً ومتماسكاً.

إلا أن هذا «الجديد»، الذي تنجح «أم ميمي» فعلاً في إضافته إلى الأدب الجماهيري العربي، يطرح بعضاً من الأسئلة عما يمكن تسميته «النسق المضمر» للرواية؛ والبنية الأدبية، التي جعلت العناصر السردية فيها توصل ذلك الانطباع الكبير بالغرائبية.

ربما كان استخدام مفردة «حدوتة» الأنسب لدى الحديث عن «أم ميمي»، لأن فضل لم يسع إلى استغلال كثير من الإمكانيات، التي يوفرها له القالب الروائي، مكتفياً بسرد خطي اعتيادي، والتركيز على ثيمة «الشاهد»، وتجربته في عوالم وبيئات غرائبية.

لدينا كتاب يروي تفاصيل، مثل محاولة ابن اغتصاب أمه؛ سرقة الجثث أثناء إعدادها للدفن؛ إجبار أب لبنتيه على ممارسة العمل الجنسي، وكل هذا قد يكون مقززاً أو صادماً، ولكنه لا يصبح «غرائبياً»، بكل ما يحمله مفهوم «الغرائبي» من سحر وجاذبية، مختلطة بالخوف والرهبة، إلا من خلال بنية سردية ورمزية/قيمية ما. بعبارة أخرى: لا أحد يهوى قضاء وقته وهو يقرأ كلمات بذيئة عن أزقة قذرة، وأجساد مريضة ومشوهة، وأفراد يسيئون لبعضهم بأشنع الطرق، إلا إذا قُدم له كل هذا بصيغة تُضفي السحر على العالم، الذي يحوي كل هذا، ولا تنزعه. فما «السحر» الذي ألقاه فضل في روايته، رغم بساطتها المبالغ بها، من ناحية البناء الروائي وتقنياته؟

قد يكون منظور الراوي هو المفتاح الأساسي للبنية النصية لـ»أم ميمي»، فالرواية عبارة عن سيرة يسردها البطل، الذي لا نعرف حتى اسمه، ولكن من الواضح أنه بلال فضل نفسه، حول تشرّده في العالم السفلي للقاهرة في تسعينيات القرن الماضي، ما اضطره للسكن في أقذر بيئة ممكنة: بيت أم ميمي، طليقة «شعراوي الزِناوي» القوّاد، في شارع لم تكلّف الدولة المصرية نفسها حتى بإطلاق اسم عليه، فعُرف باسم «شارع خلف كازينو إيزيس».

البطل القادم من بيئة محافظة و«نظيفة» في الإسكندرية، هي بيئة الطبقة الوسطى المتعلمة، التي بدأت فئات كثيرة منها تنحدر بشدة، منذ ثمانينيات القرن نفسه، يسعى جاهداً للحفاظ على نفسه وقيمه وسط مجموعة من اللصوص والقوادين. هو لا يتعلّم من تجربته بقدر ما يحاول النجاة منها. وأحكام القيمة واضحة وراسخة دائماً بالنسبة له، لا تنجح كل الأحداث العاصفة في هزها، أو دفعه للتشكيك فيها. يصف دخوله إلى عالم أم ميمي بـ«واحد من أكثر الدروب التي دخلتها في حياتي وعورةً وعفناً»؛ ويُعرّف نفسه باعتباره «لا يملك شيئاً إلا ضميره وخَلَقاته المتواضعة (ملابسه) ومدخرات تتناقص باستمرار»؛ ويشبّه خلاصه من ذلك العالم بـ«حاج انتهى من رمي الَجمَرات، ورجع من حجه عارياً من الذنوب والخطايا». لا توجد ثقة أكبر من هذه بالقيم، ومنظور الراوي هو منظور طبقة لم تضطر كثيراً للتشكيك بأخلاقياتها. الطبقة التي كانت كل المنتجات الثقافية، من كتب وموسيقى وسينما، تُنتج لأجلها، قبل أن تُقذف فجأة، مع انحدارها الاجتماعي، إلى عالم يسكنه أمثال أم ميمي. الراوي يسخر من نفسه كثيراً، لأنه اتخذ عدداً من قراراته بناء على تأثّره بـ«أفلام الأبيض والأسود»، إلا أن هذه السخرية ليست نيلاً من قيم تلك الأفلام، بل فقط من أسلوبها الساذج في تقديم العالم. علينا أن نقدّم العالم كما هو، ونكتب «أم ميمي»، علّنا ننجح في الحفاظ على قيمنا، ونظفر بالخلاص.

لا وجود لأم ميمي وطليقها وابنها، وبقية شخصيات العالم السفلي، إلا من منظور الراوي، ومن خلال التناقض، بين ما تربى عليه من قيم، وما يهوله من قذارة وبشاعة عالمهم. لا تتكلم الشخصيات عن نفسها، ولا تمارس فعلها الحياتي والاجتماعي في الرواية وفقاً لمنظوراتها، عليها أولاً أن تمرّ على انطباعات وأفكار ومشاعر مَنْ ألقى على نفسه عبء نقل تفاصيل حياتها إلى قارئ، يدرك الكاتب جيداً أنه يشاركه كثيراً من قيمه ورؤيته للحياة. العين، التي وجدت نفسها بسبب رداءة الزمن، مضطرة للتلصص على عالم أم ميمي، وغارقة في مشاكله، هي الناظم البنيوي لكل ما يدور في ذلك العالم، وأم ميمي التي نراها، بكل قدرتها على إثارة دهشتنا، ليست إلا نتيجة الاختلاف، بين ما يضمره الكاتب/الراوي من أفكار وتصورات، والطريقة التي يعيش فيها «الناس اللي تحت» حياتهم، ويحلّون مشاكلهم. ماذا لو كان الكاتب من طبقة أم ميمي نفسها؟ هل كان للدهشة والصدمة حضور في بنيته السردية؟ على الأغلب لا. التناقض القيمي والرمزي هو ما يبني عليه بلال فضل نصه، ومنه تولّد الغرائبية.

ربما لو ابتعد فضل عن هذه الثيمات لكان حقق هدفه بشكل أكثر كمالاً: نص غرائبي مدهش، ترويه عين لا تساءل نفسها وموقعها كثيراً.

اشتهاء أم ميمي

لا يخلو نص بلال فضل، رغم قيامه على الاختلاف الطبقي والقيمي، من التعاطف مع أم ميمي وعالمها، إلا أن هذا التعاطف لا معنى له إلا من تصوير ذلك العالم وشخصياته بوصفها «الآخر»، وتحديد الآخر أساسي لتحديد الذات نفسها.

يمكن تشبيه هذا بالنصوص الاستشراقية إلى حد ما، سبق للرحّالة والأدباء الغربيين أن ولجوا إلى عالم «الشرق»، بكل ما رأوه فيه من تناقض وغرائب، وممارسات مغايرة لما ألفوه من «نظافة» ومنطقية عالمهم. لم يساءلوا أنفسهم كثيراً حول قيم «الغرب»، الذي أتوا منه، بل كان الاختلاف الصافي بين العالمين، عاملاً سردياً تأسيساً لصياغة مفهومي «الشرق» و«الغرب» نفسيهما، ولجعل «الشرق» موطناً للغرائبي، اللذيذ، الساحر، المُشتهى، لكن المليء بالأخطار. يقوم فضل بعملية تغريب مشابهة، ولكن ضمن بلد واحد، تختلف قيمه بشكل حاد مع التمايز الطبقي، جاعلاً من عالم أم ميمي معرضاً للغرائب.

وبالفعل، تعود أم ميمي إلى أحلام الراوي، بوصفها الأم المشتهاة، التي تُرضع وتزجر وتحذّر وتُمتّع. ربما في سخرية غير مباشرة من كاريكاتير مصر، السائد في جانب من إعلام السلطة، واليسار المصري أيضاً، الذي يصوّرها أماً كبيرة الثديين، شديدة الخصوبة، ولّادة لا تنضب. وكذلك تعود بوصفها موطن الشهوة والانفعالات المحظورة، ما حُرم منه الراوي دوماً في حياته مع عائلته المحافظة. وهو يُذكّر بالمناسبة بما حُرم منه المستشرقون في الغرب إبان العصر الفيكتوري.

نجاح مستحق

إلا أن استكشاف «النسق المضمر» في راوية «أم ميمي» لا ينتقص أبداً مما تتضمنه من جماليات، ضمن التصنيف الذي تنتمي إليه، أي الأدب الجماهيري، القادر على مخاطبة شرائح واسعة من المتعلمين، والمهتمين بالشأن العام والثقافي.

يمكن القول إن الثقافة المصرية المعاصرة ما زالت قادرة على إنتاج تركيبات فنية ناجحة في هذا المجال. والإنجاز الذي حققه فضل هو مدّ ذلك النجاح إلى الأدب المكتوب. إذ من المجحف عدم الإشادة ببراعته: لغوياً، في دمج العربية الكلاسيكية (المسماة «فصحى») بكل متانتها، مع العامية المصرية، الأشد محلية وبذاءة؛ وسردياً، في كتابة نص لا يشعر فيه القارئ بلحظة ملل واحدة، وقادر دائماً على إدهاشه وإثارة انتباهه. رغم أن الفصول الختامية من الرواية عادت نوعاً ما إلى حبكات مألوفة في «أفلام الأبيض والأسود»، مثل محاولة توريط البطل في زواج مع فتاة سيئة السمعة؛ وثيمة «العاهرة»، التي نكتشف أنها ليست عاهرة للدرجة التي كنّا نتصورها. وهو ختام لم يكن بإدهاش ومتعة فصول منتصف الرواية، المخصصة لسرد مرض أم ميمي ووفاتها، ثم دفنها.

ربما لو ابتعد فضل عن هذه الثيمات لكان حقق هدفه بشكل أكثر كمالاً: نص غرائبي مدهش، ترويه عين لا تساءل نفسها وموقعها كثيراً.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي