وضاح شرارة كاتبا سيرة الرغبات الأولى

2022-06-19

حسن داوود

لم يحظ ذلك الطفل بما حظي به صبيّ كافكا حين وُضع في ما سيكون عالمه الجديد. كانت أمريكا هي عالم ذاك الصبيّ، أمريكا المتحدية مقاييس العالم بنفخها مساحات البيوت والعمارات والمسارح والبواخر. أما الطفل هنا، الذي بلا اسم ولا عمر يحدّدانه، فحلّ في مكان أكثر ضيقا من ذاك الذي كان قد انتُزع منه. ذاك ما نظنه أو نفترضه لأن الراوي (وهو ذاك الطفل ذاته) لم يرجع مرّة إلى الوراء ليذكر شيئا عما سبق من سني حياته القليلة. ومن ذلك أيضا أنه لم يخطر له أن يقارن شيئا هنا بشيء هناك، كمثل ما فعلت عمته لدى عودته من ليلة قضاها نائما في منزل أقاربه، حين سألته إن كان أحضر معه بيجامته، مهملة سؤاله عن فرشاة أسنانه، تلك التي ترجع إلى إقامته في منزل أهله السابقين.

إنه الآن هنا، في تلك «البلدة» وليبدأ منها. مَن أتى به، « الرجل الناحل والمكفهرّ الوجه» غادر، بعد أن سلّمه إلى بيت أخيه، ولم يعد. عالم الطفل الجديد هو عمته وجدته، وأعمامه وأخوال أبيه وأجداده المشايخ في البيوت، التي يطنب الطفل في وصف أبوابها وسطوحها ومزاريبها والحيطان التي تفصل أحدها عن الآخر، وكذلك الدروب المتشعّبة الموصلة إلى بيوت الأقارب في الحيّ الآخر.

وهو على الدوام صامت في مراقبته ما يجري من حوله، لا يبدي أي قدر من الاعتراض حين يوصَف المكان الذي جيء به منه بأنه مكان آثم. لا يحاول، حتى بينه وبين نفسه، أن يصحّح ما سمعه أو يعيد التفكير فيه، ناكصا أو متذكّرا، أو محتجّا. ما كان يفعله مع توالي الأيام، وتوالي تعرّفه بالأقرباء الكثيرين، حيث راح ينضم إلى من كان عرفه منهم أقاربُ جدد، هو التعوّد البطيء والصامت. تكاد تعدّ الكلمات التي نطق بها، في منزل، أو منازل، لا يتعب ساكنوها من الحكي والتفنّن في تزيين الكلام. وسيكتسب الطفل من ذلك ثروة كلامية نقرأها، مستعادة في الرواية بكامل محلّيتها وصياغاتها ومجازاتها التي خطر لنا، ونحن نقرأها في الكتاب، أنها لم تعد حاضرة الآن، في أيامنا هذه، بكامل غناها.

رواية «أمس اليوم» تستعيد فصولا من طفولة كان علينا نحن، قرّاءها، أن نخمّن العمر الذي بلغه منها ذلك الطفل. سنعرف، مثلا في أي عمر كان حين راحا هو وأخته يعبثان بتلك المخلوقات الصغيرة، الزهرية الخفيفة الوبر، المتجمعة متراكبة بعضها فوق بعض مثل كومة. كان هو هناك على بعد ذراع منها، مقرفصا بما يفرضه انخفاض سقف التتخيتة، وأخته مسندة رجليها إلى أعلى درجات السلّم لتلصق أعلى جسمها بأرضيتها. كانا، الأخت والأخ، يشتركان في لعبة العبث بتلك المخلوقات الصغيرة التي راحت كتلتها تنفرط، أو تنهار بسبب النغز الفضولي واللاهي، من لحظة ما سقط أحد مكوناته من أعلى الكتلة إلى الأسفل. تلك الفئران المولودة لتوّها صنع عبثُ الطفلين بها مشهدا فظيعا، وإن كان يصعب إدراك مكامن تلك الفظاعة فيه أو تعيينها. هو مشهد نمنمة ووحشية وعنف وتقزّز، وكل ذلك في الوقت نفسه. أما وضاح شرارة كاتبه فلم يذهب به إلى أبعد من وصفه، أو تأليفه مقّلبا إياه على وجوهه، بتلك الدقة المروّعة.

في الفصول الأخرى سنجد الطفل، وقد كبر قليلا، وهو يستغرق في عالمه السرّي والجنسي المبكّر. نقرأ في فصل كامل، وهو أحد فصول الكتاب الخمسة، ذلك التلامس والتحسسّ بينه وبين سناء، الأكبر منه عمرا بسنة أو سنتين (ربما). هو وهي، المتخذان من تلاصق جسميهما أشكالا وأوضاعا يسوقهما إليها شغفهما القاصر المحبط، لن يعرفا إلى أين سيصلان بما يفعلانه. في واحد من الفصول الأخرى يعود الكتاب إلى تلك الجنسية بتخصيصه صفحات كثيرة لمشاهدة الأختين اللتين تجيئان للقيام بأشغال البيت، وهما تغويان الصغار فيه، وبينهم صغيرنا أو فتانا، فيما هما تعلّمانهم بماذا ستأتيهم سنوات كبرهم المقبلة.

كتاب «أمس اليوم» يستعيد الماضي في مشاهد حرّة لا تتقيّد بما يفرض السياق الروائي عادة إلى التزام تسلسله. لا تعود الأخت بعد ظهورها الأول ذاك، على سبيل المثال، إلى الظهور في أي من صفحات الفصول اللاحقة، مثلما لا يعود الأب المذكور عن غيابه أعلاه. هي مشاهد من طفولة وليست سيرة حياة مترابطة ومتسلسلة. مشاهد متخصّصة بالجانب الأكثر سرية وغموضا في عمر ما قبل التشكّل. قطع من حياة تعيد إلى الذاكرة مشاهد فيلم «أماركورد» لفيلّيني. لكننا هنا، في «أمس اليوم» إزاء مشاهد مكتفية بذاتها، أو بقوّتها، ولا تسعى إلى أن تحيل إلى ظرف اجتماعي وتاريخي خارجها، على نحو ما فعله فيليني بردّ بعض مشاهد فيلمه إلى الحضور الطاغي للفاشية آنذاك.

«أمس اليوم» رواية وضاح شرارة صدرت عن دار نوفل في 245 صفحة- سنة 2022.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي