إدوارد تساكا.. أوقاف ألبانيا منذ الحكم العثماني

2022-06-17

محمد م. الأرناؤوط

تزامَن وصول العثمانيّين إلى البلقان، في منتصف القرن الرابع عشر، مع وجود النظام الإقطاعي في أوروبا الشرقية، والذي تميَّز بكثرة القلاع التي تضمّ أحياء سكنية داخلها وتُحيط بها بعضُ الضواحي السكنية، في مقابل قلّة المدن والسكّان بسبب الأوبئة (الطاعون)، وهو ما جعل الحكم العثماني لاحقاً يرتبط بطفرةٍ عمرانية في المنطقة كان للوقف دورٌ مهمّ فيها؛ فقد كان عددُ المدن قليلاً، وكانت كلُّ "مدينة" أقرب إلى القرى الكبيرة؛ لأنّ عدد سكّانها كان يتراوح بين ألف وأربعة آلاف نسمة، في حين أنّ "مدن الوقف"، التي ظهرَت لاحقاً، كانت مُدناً بمعنى الكلمة، بفضل المنشآت الدينية والاقتصادية والثقافية التي ارتبطت بالأوقاف الجديدة (جوامع وحمّامات وخانات وأسواق ومدارس إلخ.. ).

هكذا، فإنّه ليس من المستغرَب أن نجد الآن في البلقان مدناً مرتبطةٌ أسماؤها بالوقف (مثل: غورني وقف، ودونيي وقف، وإسكندر وقف، وغيرها). ولدينا عشرات المدن الجديدة التي ارتبط تأسيسُها ونموُّها بالوقف، بل إنّ اثنتَين منها تحوّلتا إلى عاصمتين: سراييفو في البوسنة، وتيرانا في ألبانيا.

وبسبب غنى المنطقة بالأوقاف، تطوّرَت الدراسات البلقانية حول الوقف، وخاصّةً في يوغسلافيا السابقة التي عرفت انفتاحاً مبكّراً على تركيا والدراسات العثمانية. ويمكن القول إنه لدينا ثلاثة أجيال من الباحثين الذين أغنوا معرفتنا النظرية بالوقف في البلقان وتجلّياته في تطوُّر الحياة الحضرية. ومن هؤلاء العالِم حسن كلشي (1922 - 1976) الذي تمرُّ هذه السنة مئوية ميلاده، حيث كانت رسالته للدكتوراة، التي ناقشها عام 1960، في "قسم الاستشراق" ببلغراد عن "أقدم الوثائق الوقفية في اللغة العربية في يوغسلافيا"، والتي أبانت عن دور الوقف في التطوُّر الحضري خلال الحكم العثماني في مناطق يوغسلافيا السابقة. ويمكن القول هنا إنّ الجيل الثالث يتمثّل الآن في المؤرّخ الألباني إدوارد تساكا، الذي نَشر له أخيراً "معهدُ التاريخ" في تيرانا كتابه "الأوقاف وتأثيرها الاجتماعي في ألبانيا خلال العهد العثماني".

وفي الواقع، يمكن مقارنة هذا الكتاب بأطروحة حسن كلشي، التي نُشرت لاحقاً بالصربوكرواتية (1973) وبالألبانية (2012)، وألهمت الجيل الثاني من الباحثين، من حيث إنّه يمكن أن يكون مكمّلاً لما بدأه كلشي ومُلهماً للجيل الثالث من الباحثين في مجال الوقف. فقد غطّى كلشي، في عمله، مناطق جنوب يوغسلافيا ذات الغالبية الألبانية، في الوقت التي كانت فيه ألبانيا منغلقة على هذا النوع من البحث خلال الحكم الشيوعي، بينما يأتي كتاب تساكا (أو كلشي الجديد) ليغطّي ألبانيا بكاملها، وهو ما يُكمل الحلقة الناقصة في سلسلة الدراسات الوقفية المتخصّصة التي تشمل البلقان.

في الجانب النظري حول أصول الوقف وتطوُّره عبر التاريخ الوسيط (حيث إنّ الدراسات السابقة كانت تركّز على التأثيرات المصرية القديمة والنبطية والرومانية والفارسية والتركية القديمة)، نجد أنّ إدوارد تساكا يُقلّل من شأن التأثيرات التركية القديمة في آسيا الوسطى، باعتبار أنّ الأتراك كانوا ينتمون أكثر إلى البدو الرحّل إلى أن انتقلوا واستقرّوا في الأناضول، حيث أضحت المؤثّرات البيزنطية أكثر وضوحاً في إماراتهم، وخاصّة في الإمارة العثمانية التي تطوّرَت بسرعة إلى سلطنة، بما في ذلك الوقف.

في هذا السياق، يستفيض تساكا في الحديث عن تطوُّر منشآت الوقف الخيري في الدولة البيزنطية (الكنائس والمنشآت الاجتماعية والصحّية التي تقدّم خدمات مجّانية للمحتاجين)، والتي كان يؤسّسها ويرعاها الأباطرة أنفسهم، وهو الأمر الذي سيظهر مع السلاطين العثمانيّين الأوائل، وبالتحديد مع أورخان الذي سيبني عام 1324م خانقاه للدراويش مع ما يتبعها.

ومع عبور العثمانيين للدردنيل عام 1354 وانتشارهم التدريجي في البلقان وصولاً إلى عام 1371م، حينما أصبحت عاصمتهم (أدرنة) في أوروبا، نجد هذا الاهتمام يتزايد مع السلاطين مراد الأوّل وبايزيد الأوّل ومراد الثاني، ثم مع الصدور العظام والوزراء الذين أخذوا يقلّدون السلاطين في إنشاء الأوقاف الضخمة التي تطوّرَت عنها المراكز الحضرية الجديدة بمسحة إسلامية جديدة. ونظراً إلى أنّ العثمانيّين انتشروا في البلقان في الكيانات التي تمخّضَت عن الإمبراطورية الصربية بعد انهيارها عام 1355م، لا يفوت المؤلّفَ أن يلاحظ أيضاً أنّ الصرب اهتمّوا أيضاً بالأوقاف تحت تأثير بيزنطة، وبنوا الكثير منها من كوسوفو إلى فلسطين (دير الصرب بالقدس).

ومن ناحية أُخرى، يتوقّف تساكا عند بُعد آخر لهذا الاهتمام العثماني ببناء المنشآت الخيرية - سواء في تقاطع الطرق المهمّة أو في المراكز الحضرية الجديدة - التي تُقدّم خدمات مجّانية للوافدين إليها بغضّ النظر عن ديانتهم، ألا وهو المتعلق بـ "استمالة" السكّان المسيحيّين إلى الدين الجديد. فنظراً إلى أنّ الدولة العثمانية كانت أوّل دولة في أوروبا تقبل تعدُّد الأديان ولم تأخذ بالمبدأ السائد "الناس على دين ملوكهم"، لم تكن هناك هيئة أو مؤسَّسة رسمية تُعنى بنشر الإسلام، ولكن ذلك تُرك تحت هذا المصطلح العربي الذي دخل العثمانية (استمالة)، لتقوم به تكايا الدراويش في تقاطُع الطرق والمنشآت الموقوفة في المراكز الحضرية (العِمارة التي تقدم وجبات مجّانية مرّتَين في اليوم وغيرها).

ومع تذكيره بما سبق كلشي إلى التنبيه إليه مِن دَور الوقف في الازدهار العمراني، يجد المؤلّف في ألبانيا منطقةً غنية بالأدلّة والأمثلة على هذا الدور للأوقاف الجديدة التي أُنشئت هناك، سواء من قبل السلاطين أو من قبل الصدور العظام والوزراء الألبان الذين أسلموا وصعدوا بسرعة في الهرمية العثمانية. ومن هؤلاء لدينا ميراخور إلياس بك الذي وُلد في قرية باناريت Panarit في جنوب شرقي ألبانيا، وآثر أن يعود إليها ويرحل فيها بعد مجد عسكري وسياسي في الهرمية العثمانية، التي كانت تسمح لابن فلّاح بسيط أن يصعد فيها وحتى أن يتزوّج ابنة السلطان.

التحق إلياس شابّاً بالجيش الانكشاري بعد أن أسلم وبرز بشجاعته، ممّا أهّله للصعود، وخاصّةً بعد أن شارك في فتح القسطنطينية عام 1453م مع السلطان محمد الفاتح الذي زوّجه ابنته. ونظراً لخدماته، فقد منحه السلطان الجديد بايزيد الثاني أراضيَ واسعةً حول قريته التي وُلد فيها، والتي قام بوقفها لتخدم النواة العمرانية الجديدة باسم كورتشا Korça التي أسّسها في نهاية القرن الخامس عشر ووثّقها أخيراً في الوقفية المؤسّسة لنواة المدينة الجديدة التي تحمل تاريخ 1 رمضان 910 هجرية/ 5 شباط/ فبراير 1505 ميلادية.

وحسب فلسفة الوقف الذي يُراد منه أن يبقى قائماً "إلى أن تقوم الساعة"، كان على الواقف أن يحرص على بناء منشآت (خان وسوق وحمّام وغيره) تُوفّر بتشغيلها الدخل اللازم لتغطية نفقات المنشآت الأُخرى التي تُقدّم خدمات مجانية (الجامع والمدرسة والعمارة التي تُقدّم وجبات مجّانية للطلّاب والوافدين). وبذلك، دخل ميراخور إلياس بك التاريخ بوصفه "مُؤسّس" مدينة كورتشا التي تطوّرَت بسرعة وأصبحت من أهمّ المدن في ألبانيا.

وبالإضافة إلى ذلك، يُوضّح إدوارد تساكا دورَ الوقف في تأسيس عدّة مدن أُخرى؛ مثل بتشين Peqin، وبيرات Berat، وتيرانا Tirana التي أصبحت عام 1920 عاصمةَ ألبانيا.

بالإضافة إلى ما سبق، شهد البلقان في مطلع الحكم العثماني تطوُّراً جديداً عُدّ "ثورة في الفقه المتعلّق بالوقف"؛ ألا وهو وقف النقود. فقد كان الشائع هو وقف الأراضي والخانات والحمّامات والأسواق وغيرها لتأجيرها لصرف العائد منها إلى المنشآت الأُخرى التي تحتاج إلى نفقات (الجوامع والمدارس والمكتبات وغيرها). ولكن مع وقف النقود، أصبحت المَبالغ الموقفة تُقرض بفائدة قليلة (بالمقارنة مع الربا) إلى التجّار والحرفيّين، ويُصرَف العائد منها إلى المنشآت التي تحتاج إلى نفقات.

وفي هذا السياق، يكشف إدوارد تساكا عن جانب مهم يتعلّق بألبانيا؛ وهو قيام النقابات (أو الأصناف كما كانت تُسمّى) بتأسيس صناديق تضامُنية لرعاية أعضائها؛ حيث كانت أموال هذا الصندوق، أو جزءٌ منها، توقف وتُقرض للتجّار والحرفيّين ويعود العائد منها لإغناء تلك الصناديق التضامنية.

وفي هذا القسم بالذات، استفاد تساكا من دفاتر النقابات التي كانت توثّق كلّ شيء. وبالتالي نجد هنا نموذجاً مبكراً للبنوك الاجتماعية، حيث إنّ القروض تُسجَّل باسم المقترض مع الفائدة والرهن لتأمين ردّها إلى الصندوق، الذي يستفيد منه كلُّ أعضاء النقابة في حالة الطوارئ.

ونظراً إلى أنّ ألبانيا بقيت متعدّدةً دينيّاً، وخاصّةً بعد قدوم اليهود الذين طُردوا من الأندلس خلال الحكم الإسباني الجديد، يكشف المؤلّف أيضاً عن أنَّ الأوقاف لم تعد مقتصرة على المسلمين، بل أصبحت معروفة وموثّقة في السجلّات العثمانية منذ وقت مبكر.

وهكذا يلفت تساكا النظر إلى أنّ عائد الأوقاف المسيحية في لواء يانينا في عام 1530 كان 5663 أقجه (العملة التي كانت سائدةً في الدولة العثمانية)، بينما كان عائد الأوقاف الإسلامية 3250 أقجه فقط. ولا شكّ أنّ هذا الفارق يرتبط أيضاً ببدايات انتشار الإسلام بين الأرثوذكس في ألبانيا الجنوبية، والذي انتشر هناك بنسبة أقلّ بالمقارنة مع الكاثوليك في ألبانيا الشمالية.

ومع الأخذ بعين الاعتبار تزايُد الاهتمام في المنطقة العربية بالأوقاف وتجرُبة الآخرين في هذا المجال، نجد أن ما تُرجم من الدراسات التي تتعلّق بالأوقاف في البلقان لا يكاد يُذكر بالمقارنة مع نتاج ثلاثة أجيال من العلماء المتخصّصين، ومن ذلك هذا الكتاب الضخم (516 صفحة من الحجم الكبير) الذي يحمل جديداً؛ سواء في ما يتعلّق بتطوُّر مفهوم الوقف، أو التعريف بمجال محدَّد - ألبانيا - تجلّت فيه الأوقاف بدورها في الحياة الاجتماعية.

كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي