فابيو مورابِطو.. هل حان الوقت لأعود يا إسكندرية؟

2022-06-13

تقديم وترجمة: أحمد محسن غنيم

وُلِد فابيو مورابِطو في الإسكندرية - المدينة التي ربما نولد فيها جميعًا، كما يقول في إحدى قصائده - عام 1955. عاد أبواه إلى ميلان وهو في الثالثة من عمره، ليعيش طفولته ومراهقته بالإيطالية، قبل أن يهاجر أبواه مرّة أُخرى، إلى المكسيك هذه المرّة، وهو في الرابعة عشرة. بدأ حينها حياةً ثالثة بلغة جديدة هي الإسبانية، وهي اللغة التي كتب بها كلّ كُتبه من شعر وقصّة ورواية. لكنّ مورابِطو لم ينس قطُّ أنّ لغته الأمّ هي الإيطالية، وأنّ مدينته الأُولى هي الإسكندرية، وإن لم يعُد إليها منذ غادرها.

فابيو مورابِطو شاعرٌ طفلٌ، طفلٌ أبدًا، وشاعرٌ أزلًا، فكما يقول الكاتب الروماني ميرتشا كارتاريسكو: "الشعر هو القدرة على تمديد الطفولة لأطول فترة ممكنة". كان مورابِطو طفلًا يحبّ تعرية الأشجار لكي يراها عاليةً في شموخها، مترفِّعةً عن كلّ إهانة، قادرةً دائمًا على إعادة خلق نفسها، غير عابئة بما سواها. تظلّ الأشجار ويظلّ الطفل، ويعود الشاعر ليجد الشعر دائمًا فيها؛ في الأشجار التي ليست من الخشب، وفي النار التي لم تعرف قطُّ فكرة الشجر، لم تعرف سوى الخشب الميت.

يكتب مورابِطو عن أراجيح الطفولة، عن الأراضي البُور، ووحدة زجاجات البيرة الفارغة، عن الموائد والكراسي والأبواب المواربة، عن رحلات الشباب بلا وجهة، وعن ذهاب اللغة الأمّ وتلاشيها، عن الحياة على الحدود، والقبيلة التي هو آخر أفرادها. يصعب التفكير في شيء لا يمكن لذلك الطفل أن يرى فيه الشعر، ولذلك العجوز أن يكتبه. ها هي قصائد مورابِطو، تعرف طريق الرجوع إلى الإسكندرية، قبل صاحبها، تبحث عن حياتها في لغة ثالثة، كانت اللغةَ الأُولى التي سمعها ذلك الطفل البعيد.

على الحافّة

بعفوِ البحر

تُولد الشواطئ

بلا سببٍ وبلا ترتيب

شاطئٌ كلَّ مئةِ بحر.

وُلِدتُ على شاطئٍ

في أفريقيا،

حملني أبواي إلى الشمال،

إلى مدينةٍ محمومةٍ،

واليوم أعيش بين الجبال.

تعوّدتُ على الارتفاع،

ولا أكتبُ بِلُغَتي،

في بعضِ أيام السنة

أدوخ وأُصاب بالدوار

وتُعيدُ إليَّ السهولُ اتِّزاني.

أرحلُ نحوَ البحرِ الذي أستطيع،

آخذُ كتبًا لا أقرَؤُها،

لم أفتحها قطّ،

فالطيورُ تكتبُ

قصصًا أَرَقَّ.

بَحْري هو هذا البحر،

أعزل وشديد البُكور،

يترك للأرض أسلحة،

وألعابًا، وحُزم طحالبه،

وتقلُّباته،

يهاجر كالسيرك،

يترك كلّ شيء في راحة:

المخلّفات البحرية

التي تحبّها النساء

كأختٍ قديمة.

بِه إذ يُولي ظَهرَه كُلَّ شيءٍ،

أقفُ مواجهًا

كلَّ شيءٍ بعينيَّ.

بِهِ إذ يخسرُ حَدَّه،

أكسبُ أصلًا، وأرضًا،

أشهق أبجديّتي

متنوّعةً ووحيدةً

وأجدُ أخيرًا لُغَتي،

صحراء من الرحَّالة،

أرضي الحقيقيّة.

■ ■ ■

آخر أفراد القبيلة

وُلِدتُ بعيدًا

عن وطني،

في مدينة مبنيِّة

على ضواحي أفريقيا.

ففي كلّ قارَّةٍ

أو بلدٍ، ولو كان شديد الصِّغَر،

هناك شيءٌ زائدٌ لا ينتمي إليه.

أو يوليه ظهرَه،

وهو في أغلب الأحيان ميناء.

في أغلب الأحيان مليءٌ

بالأوروبيّين واليهود.

وُلِدتُ في صراعِ

لُغاتٍ وأصولٍ

لا ينتهي سوى

داخل البرِّ، في الصحراء.

رُبَّما لذلك شيءٌ ما

من اللاواقعيّةِ يغذِّيني،

ومن الوداعِ الأبديِّ،

ولا تكفي السخرية

- ولا خفَّةُ الدم، ولا الفنُّ -

لكي أكفَّ عن كوني

أحدًا في كلِّ مكانٍ

يشعر بنفسه غريبًا.

الإسكندرية غير الواقعيّة

- هي هذه المدينة -

أميرة التجارة،

بوّابة الدخول

لكلِّ الملذات،

لا أذكر سوى نتوءِ

شارعٍ من شوارِعك:

رصيف ميناء قديم،

المساء البارد، بلا حِقْبة،

وتحته أنا وأُمِّي

على شاطئٍ متَّسِخ

بزيوتِ السفن،

وبالقنافذ والطحالب،

في اللحظة التي كانوا

يوقدون فيها مصابيح الإنارة

فوقنا، على الطريق.

إسكندريةٌ صابرة،

فاتنةٌ وأرجوانيَّةٌ قليلًا،

مميَّزة وناعمة

مثل خادمةٍ عجوز

من طول ما وسَّخت نفسها

واستهلكت نفسها لقرونٍ

استحالت بغرابةٍ

نقيَّةً وشبه صوفيَّة.

أليس هذا هو

أكثر طرق الجسد

إنسانيةً،

خميرة المنيعين

الجميلة؟

لماذا كلُّ ما هو عربيٌّ

يبعثني على التفكير

ويجعلني أتمنّى

زهدًا تامًّا

كتلك الحياة البسيطة

المرسومة على السجائر

"كامل": نخلة،

وجَمَلٌ، وصحراء؟

أرضَ العربِ

يا أرضَ الأسفار

يا اسمًا يتفتّتُ

كاملًا في فمي

كحَجَرٍ صلبٍ

لا يتجزَّأ، نقيٌّ

للحجّاجِ

الذين يسافرون إلى مكّة

في جماعاتٍ متدفِّقةٍ

وفيها يستعيدون

إشاراتِ التجارة

الزيتيّة،

وحُبَّ الوجود الشفهيّ.

هل حان الوقتُ أن أعودَ

أنا أيضًا، يا إسكندريةُ،

وأن نُسوِّي حساباتِنا؟

أعرف: إنّ حياتي - القريبة الآن

من أزمتها الأولى،

ومن صراعها الأول

الجادّ - التي تستجمع قواها،

وتشجِّعُ نفسها

بينما أنظِّفُ في منزلي

لكي لا يكون هناك سوء فهم -

هي أيضًا في حاجةٍ مُلِحَّةٍ

إلى حَجٍّ صافٍ.

بمرور الوقت يقلُّ

الأقارب الذين يريدون

تذكُّرَكَ، واللغةُ العربيَّةُ

التي كانت العائلة تستخدمها

في تعبيراتٍ كثيرةٍ

للبهجة والمزاج،

ها هي تكاد لا تُسمع

في أحاديثنا بعد الطعام.

برْدُ الشيخوخةِ،

وموتُ البعضِ،

وبُعدُ الآخرين،

وعدمُ الاكتراث القاسي

أذابوكِ يا مصرُ،

ولستِ أكثر من مجرّد اسمٍ،

بالكادِ رمزٌ آخرُ

للشبابِ والمتعة،

بالكادِ بعضُ الصورِ

التي أنظرُ إليها كلّ زمن،

أنا، الأبْعَدُ والأصغرُ،

آخرُ أفراد القبيلة.

■ ■ ■

الآن

(إلى ماريابيا لامبيرتي)

الآن،

بعد حوالي عشرين عامًا

أحسُّ به:

كعضَلَةٍ تضمر

لقلّة التدريب،

أو تتأخّرُ

في الاستجابة.

الإيطاليَّةُ

التي وُلِدتُ بها، وبكيتُ

وكبُرتُ داخل العالم

- لكنّني لم أُحِبَّ بها

بعدُ -

تتهرَّبُ من يديَّ،

لم تعُدْ تتمسَّكُ بالجدرانِ

كسابق عهدها،

صحراءَ من أحلامي

وإشاراتي،

تبردُ،

وينفرط عقدها.

وأنا،

الذي طالما رأيتُ ذاك الكوبَ

مليئًا،

لا ينضب معينُه،

مزروعًا فيَّ

كشجرةٍ عظيمةٍ،

كبيتٍ ثانٍ

في كلِّ مكانٍ

كيقينٍ، ورباطٍ

لا يمكنُ لأحدٍ فكُّه

(حِمىً منيع،

مأوى)

أكتشفُ حقيقةً

لطالما عرفتُها

بلا جدوى:

مَن يَغْزُ

يُهمَلْ دائمًا

ووراء ظهره وذاكرتِه

يعرَج الرُّحَّلُ

والوافدون.

لا بُدَّ من الالتفاتِ للخلفِ

عاجلًا أم آجلًا،

والالتحامِ بماضٍ ما،

وسدادِ كُلِّ الديون

- دفعةً واحدةً

إن أمكن -

وهكذا، إن رحلتِ أنتِ،

يا لغةً عن لساني،

يا سببًا عميقًا

لحماقاتي

واكتشافاتي،

ماذا سيبقى لي؟

بأي كلماتٍ سأتذكَّرُ طفولتي،

وبأيِّها سأَبْني

الطريقَ وألغازَه؟

كيف سأُكمِلُ عُمري؟

■ ■ ■

أسمعُ السيّارات

في الصباح أسمع السيّارات

التي لا تستطيعُ

الانطلاق.

ربّما هناك، بين الأشجار،

طيورٌ هكذا،

تتأخّرُ في الإلقاء بنفسها

إلى الطيران اليوميّ،

وبعضها لا تستطيعه أبدًا.

وأُسْعَدُ لسيّارةٍ

بَرَّدَها الليلُ،

حين تتذكّرُ أخيرًا الاحتراق

وتوقد دوائرها.

ما أجملَ ضجيجَ

المحرِّك!

الواقعَ عائدًا إلى مجراه!

كيف تتصرَّفُ الطيورُ

لكي تعرفَ في أيِّ لحظةٍ

إن أخذتْ تطيرُ

لن تكون عرضةً للخطر؟

أي عَصَبٍ في طيرانِها

يُخبرُها

بأنها حُرَّةٌ من جديد

بين أوراق الأشجار؟

■ ■ ■

لديّ كلبٌ خفيّ

لديَّ كلبٌ خفيِّ،

بداخلي حيوانٌ من ذواتِ الأربع

أُخرجُه إلى الحديقة

كما يفعلُ الآخرون بكلابِهم.

الكلابُ الأُخرى،

حين أنعطفُ

وأتركه في حرِّيةٍ

لكي يلعب ويجري،

تتبعُه،

لكنَّ أصحابَها لا يرونه،

وربَّما لا يرونني أنا كذلك.

أصبحَ يتكوَّنُ خلالَ الجولات،

يُشجِّعُ الكلابَ ويُقلِقُها

ويثيرُ القلقَ بين أصحابِها

فينادون كلابهم

لكي لا يتشكَّل القطيع.

قد لا يرونني،

جالسًا على مقعدٍ،

منثنيًا بعض الشيء

لكي أتمكَّن

من تركه حُرًّا.

ورغم أنهم لا يستطيعون رؤيتَه

فربّما يرون الكلب

الذي - خفيًّا، ككلبي -

يحملونه بداخلهم،

الوحشَ الذي لا يخرجونه أبدًا،

الكلبَ الذي يكبحونه

بحملِ كلابهم للتنزُّه.

■ ■ ■

كورال

أنا أيضًا كنتُ في كورال،

في صوت بلا شروخ.

لم أسمع قطُّ الأصواتَ

التي كانت تحت هذا الصوت

تخرج من شرخ، مجروحةً.

لم أعرف قطُّ صوتَ كل وجه.

منذ بدأنا محا صوتٌ واحدٌ

كلّ الوجوه، والجراح.

كان المايسترو يسمع ذلك الصوت فحسب.

لكنّ صوتًا مجروحًا هو وحده الصوت الذي يمكن سماعه.

لا أعلم ماذا كان يسمع الذين كانوا ينصتون إلينا.

■ ■ ■

أشجار

ثمَّةَ أشجارٌ تُولَدُ للغابةِ

وأخرى هي غابةٌ دون أن تدري.

تجهل الشجرةُ الغابة

والغابةُ قد تجهلُ الشجرة،

الشيءُ الوحيدُ الذي نعرفه هو الجذرُ الذي يحفُر

والفرعُ الذي يحفر أيضًا،

أحدهما في سماءِ من الطين،

والآخرُ في سماءٍ من الغيم.

الحياة حفرٌ، وكلٌّ وسماءَه.

■ ■ ■

الأراجيح

ليست الأراجيحُ خَبَرًا،

إنها بسيطة كالعَظْمَةِ

أو كالأفُقِ،

تعملُ بجسَدٍ

وتعتمدُ صيانتُها

على طبقةِ طِلاءٍ

كلَّ حين،

يدهنها كُلُّ جيلٍ

بلونٍ مختلفٍ

(لكي يُمجِّدَ طفولتَه)

لكنّهم يتركونها كما هي،

لا يُبحَث عن أشكالٍ جديدةٍ

للأراجيح،

ليس هناك مسابقات للأراجيح،

لا تُعطى حصصٌ للتأرجح،

لا يسرقُ أحدٌ أرجوحةً،

لا يذيعُ الراديو صرير الأراجيح،

كُلُّ جيلٍ يدهنُها

بلونٍ مختلفٍ

لكي يتذكَّرَها،

هي التي تأخذُ بيدِ الأطفالِ

إلى الأقواسِ،

وإلى الأسى،

وإلى عدم نفع جهودهم

ليكونوا مختلفين،

يحرقُ الأطفالُ عليها

مخزونهم من المستحيل،

وتحوّلاتِهم الأخيرة،

إلى أن يأتي يومٌ، دون قطرةٍ واحدةٍ

من الرطوبة،

ينزلون

من الأرجوحةِ

إلى أنفسهم،

إلى اسمِهم الخاصِّ

والحقيقي،

إلى موتِهم الذي لا يزالُ بعيدًا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي