«عسل ومرارة» للطاهر بن جلّون: هادئة ومفجعة معا… تلك الحياة

2022-06-13

حسن داوود

دون سائر من يتداولون على سرد الرواية ٭ واحدا بعد واحد، سامية وحدها خُصّت بتعيين تاريخ في كل مرّة يعطى الدور لها بالكلام. «1 أكتوبر/تشرين الأول 2000» كان يوم تدخّلها الأوّل، وهذا متعيّن قبل الكلام الذي ستبدأ بقوله. لكن لم يُتح لها زمن كثير حيث توقفت عن الكلام بعد نحو شهرين، في 17 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام نفسه. ذلك يعود إلى موتها منتحرة بفتح صنبور الغاز بعد إقفالها لنوافذ المطبخ. مراد ومليكة، والداها، كان لهما زمن الرواية كله، منذ زواجهما، وصولا إلى شيخوختهما فموتهما واحدا بعد الآخر. تخلّل تلك الحياة بالطبع ما أطلقا عليه اسم «الفاجعة» فصارا من بعدها غير ما كاناه من قبلها. لكن، مع ذلك، استمرت الرواية تتقدّم بعد رحيل سامية، وإن محمّلة، بل غارقة، بثقل فاجعتها التي لا تحتمل.

«عسل ومرارة» العنوان يدلّ على ذلك، بين ما يدلّ عليه هذا العنوان أيضا هو أن الرواية تنقل وقائع من حياة كاملة عاشها زوجان، لكن، فلننتبه هنا إلى أن العسل قليل. لم يحظ الزوجان إلا بحياة عادية عرفا فيها بعض التحسّن في مدخول الزوج وأنجبا فيها ثلاثة أولاد سَلِم اثنان منهما هما آدم ومنصف. وهذان لم يعوّضا الأهل كفاية عن فقد سامية، فأحدهما (منصف) يقيم في كندا والآخر (آدم) تحجب عنه زوجته التأشيرة ليقوم بزيارة أهله، حسب ما تتندّر الأم.

هي حياة عادية إذن ونموذجية، على الرغم مما تخلّلها. حياة عادية كان فيها إقبال الزوج البطيء والمتدرج على قبول الرشوة من أصحاب المراجعات. لقد أدرجت الرواية مراحل ذلك القبول بإسهاب، مبيّنة نتائجه في أحوال العائلة المادية، وكذلك في وجع ضمير المرتشي، الذي صار أكثر إلحاحا وحدّة بعد تقاعده. من وقائع الحياة العادية، أيضا، البيت الذي كان في البداية أشبه بقبو، وأحوال الأولاد في ما هم يكبرون، ومنها كذلك المشادات الكلامية بين الزوجين، وتباعدهما مع مرور الزمن على الرغم من استمرارهما باقيين معا في البيت نفسه. وفي صفحات الرواية يدلي كل منهما بما يراه، أو بما يعكّره، في الآخر، فنقرأ ما يرتقي إلى مستوى الكشف لما هو مشترك وعام بين كل زوجين. ونحن، في أثناء ذلك، نعجب من انتباه الكاتب إلى أن التناكف الزوجي، هذا الذي كنا نعرفه، تفاجئنا قراءته.

من وقائع الحياة العادية أيضا استخدام العائلة، بعد كبر الأولاد، للشاب الموريتاني (فياد) الذي أشركه الكاتب في تولّي السرد، فراح يروي أشياء عن حياته وعن بلده الذي لا يرغب أبدا في العودة إليه. فياد لا يحبّ موريتانيا ولا يحبّ بناتها، رغم أنه، لسواد بشرته، يعاني من ازدراء الناس وتعييرهم هناك في طنجة المغربية.

الطاهر بن جلّون أمعن في وصف سوداوية المصير الذي بلغه كل من الزوجين، جاعلا منه المأساة الأكثر مرارة. بدا بذلك ناعيا الحياة ذاتها، تلك التي توصل إلى هذا القدر من المأساوية الإجبارية، التي تتعدى ما انتهت إليه ظروف كل من الزوجين مراد ومليكة.

كان الطاهر بن جلّون، ابتداءً من الصفحات الأولى في الرواية، قد وضع قرّاءه في حال الترقب، ذاكرا لهم أن هناك «فاجعة» تحوّم فوق هذه الشكوى من رتابة الحياة وهمومها الصغيرة. وهو أوصلهم إلى ذلك بالتمهّل حتى كادت تبدو واضحة لهم التقنية الموصلة إلى تلك الفاجعة، تلك المفاجأة المؤجّلة، والمعلَن عنها، وتوقّعها التدريجي، لم يكن لينهي الرواية عند حصول الانتحار. لم يتحقّق شيء من توق الأب مراد للثأر ممن يسمّيه «الخنزير» الذي اغتصب ابنته بعد أن استدرجها عارضا عليها استعداده لسماع القصائد التي تكتبها، ولم يُفتضح ذلك الخنزير، في الصفحات الختامية من الرواية حيث ينشر آدم، الابن، فصلا مما نشرته صحيفة محلية عن الجنازة التكريمية التي حظي بها ذاك المغتصب، الذي لم تُمتْه إلا شيخوخته: «مات موتا هادئا، أثناء نومه، هادئا كما كانت حياته الطويلة التي كرّسها بالكامل للشعر، ولاكتشاف المواهب الشابة».

لم يختتم الكاتب روايته بفاجعتها، أي لم يجعل انتحار سامية ذروتها التراجيدية، ذاك لأنه استمر واصفا ما تبقّى من حياة الزوجين. إنهما، الآن، في شيخوختهما. غيّرهما العمر ولم يعد أحدهما قادرا على القيام بأوده وبحاجات نفسه وجسمه. ماتت الزوجة أولا، بعد أن اختلط وعيها فصارت لا تعرف إن كان ما تراه موجودا أمامها فعلا. بعد موتها انقلب شعور زوجها حيالها. هدّه فقدها، هو الذي كان، أصلا، مهدود الجسم والروح، يعاونه الموريتاني على قضاء حاجاته الأخيرة.

الطاهر بن جلّون أمعن في وصف سوداوية المصير الذي بلغه كل من الزوجين، جاعلا منه المأساة الأكثر مرارة. بدا بذلك ناعيا الحياة ذاتها، تلك التي توصل إلى هذا القدر من المأساوية الإجبارية، التي تتعدى ما انتهت إليه ظروف كل من الزوجين مراد ومليكة.

«عسل ومرارة» رواية الطاهر بن جلّون صدرت عن دار الساقي. نقلها عن الفرنسية أنطوان سركيس في 254 صفحة، سنة 2022

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي