التنوع المتميز : بيير بيزوكوف: بطل رواية «الحرب والسلام» تمثيلاً وغناءً

متابعات الأمة برس
2022-06-08

من غنائية برودواي «ناتاشا، بيير ـ مُذنّب 1812 العظيم» (تواصل اجتماعي)مروة صلاح متولي*

في فيلم سينمائي ودراما تلفزيونية، وعلى خشبة المسرح في غنائية من غنائيات برودواي، تجسدت شخصية بيير بيزوكوف، بطل رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، تمثيلاً وغناءً بأساليب مختلفة، تتفاوت في مستوى جودتها، ودرجة إتقانها ومهارتها في التعبير عن تلك الشخصية الأدبية، التي صاغها تولستوي على طريقته.
بالطبع لم يقتصر ظهور بيير بيزوكوف على هذه الأعمال الثلاثة، فقد تم تجسيده في بعض الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الأخرى بلغات متعددة. وتعد شخصيته من أعمق الشخصيات الأدبية، التي لا تزال تجتاز القرون محتفظة بقوتها وحيويتها وملاءمتها لأحدث العصور، بل إنها تشد المرء للعودة إليها، وتَذكُرها من حين إلى حين، وربما تُشعره باحتياج ما إليها. فإن بيير بيزوكوف هو السلام، إذا أمكن وصفه على هذا النحو، واختصار شخصيته في هذا التشبيه، أو هو على الأقل، الشخص الذي استطاع أن يجد السلام، ويصنعه داخل نفسه ويهب الكثير منه إلى الآخرين. وهو تجسيد بشري خالص لمعنى المغفرة وقيمة التسامح. يملك قلباً يستطيع أن يحتضن الحياة بأكملها والإنسانية جمعاء، على الرغم من أنه لم يكن ملاكاً، وكاد يرتكب أفظع الجرائم وأشنعها، ألا وهي القتل.
وعلى مدى صفحات رواية تولستوي الضخمة، التي صدرت كاملة سنة 1869، المليئة بالأبطال الآخرين، وحيواتهم المشحونة بالمشاعر المعقدة والأحداث المتقلبة. تبدو رحلة بيير بيزوكوف الطويلة كالرحلة الأهم والأكثر بروزاً، على الرغم من هدوئه الظاهري، ووجوده في كثير من الأحيان كمتفرج صامت، يشاهد بقية الشخصيات ويتابع ما يجري لها من أمور. كما يظهر أحياناً كبطل سلبي غير فاعل، يتلقى ضربات الأقدار، والأذى والإساءات البالغة من الآخرين، ولا يأتي غضبه وردود أفعاله وثورته، إلا متأخرة جداً، إن أتت. لكنه هو الذي ينجو في النهاية، وينعم بالسلام والحب، ويعيش في سعادة مع ناتاشا، التي يتزوجها بعد موت خطيبها آندريه في الحرب، وموت زوجته الفاتنة الخائنة هيلين.

الحرب والسلام في السينما

في الفيلم الأمريكي «الحرب والسلام» 1956، وفي دراما «بي بي سي» 2016، التي تحمل عنوان الرواية أيضاً، وفي غنائية برودواي «ناتاشا، بيير – مُذنّب 1812 العظيم» التي عُرضت هي الأخرى للمرة الأولى سنة 2016. كان مُقدراً لشخصية بيير بيزوكوف أن يجسدها ثلاثة من الفنانين الأمريكيين، حتى من قام بأداء دوره في الدراما البريطانية. ولا شك في أن عام 2016 كان عاماً سعيداً بالنسبة لرواية «الحرب والسلام» بما شهده من استعادة قوية لها، وتَذكُر يليق بقيمتها الأدبية الخالدة، وإبداع حقيقي في التناول والرؤية. على العكس تماماً من الفيلم الأمريكي القديم، الذي أدى فيه الممثل هنري فوندا دور بيير بيزوكوف، أو هكذا يُفترض. لكن الحقيقة المرئية تقول إنه كان بطلاً أمريكياً، يحاول أن يرسم ابتسامة ساحرة على وجهه طوال الوقت، يتحرك بثقة مفرطة بالنفس، ولا يفارقه الشعور بالزهو والخيلاء حتى في مواقف الارتباك. فلا يجد المشاهد فرقاً كبيراً، بين بيير الخجول البريء، وأناتول زير النساء المخادع على سبيل المثال. فإن بيير بيزوكوف ليس وسيماً وطويلاً ورشيقاً كهنري فوندا، بل هو رجل عادي، أو أقل من عادي، تنجذب النساء إما إلى ثروته، أو إلى قلبه الطيب، حسب كل امرأة وطبيعتها وما تريده. صحيح أن هنري فوندا كان يؤدي مشاهد بيير، وما يمر به من مواقف، ويلقي كلماته المستوحاة من الرواية. أما الشخصية نفسها، فيبدو أنها لم تكن حاضرة في ذهنه، فجاءت أمريكية بشكل زائد عن الحد، وتمثيل شخصية عميقة من هذا النوع يجب أن لا يؤخذ بهذه السطحية. فهو لم يلتزم بالشكل الخارجي للشخصية، ولم ينفذ إلى باطنها، حتى في مشاهده المشتركة مع النجمة أودري هيبورن، التي لعبت دور ناتاشا، لم يكن أكثر من مجرد عاشق أمريكي في إطاره السينمائي التقليدي، وظل يؤدي جميع مشاهده، وقد تفلتت منه الشخصية تماماً وهو غير مكترث.

 

أدى الممثل شخصية بيير في مختلف مراحل حياته، وتبدل أفكاره وأحواله أيضاً، من ابن غير شرعي، إلى الوريث الوحيد المعترَف به، الذي بات يحمل لقب الكونت بيير بيزوكوف، خلفاً لأبيه الذي اعترف به في لحظات احتضاره.

أما الممثل الأمريكي بول دانو، الذي كان بطلاً لدراما «بي بي سي «المكونة من ست حلقات، فلم يخرج أداؤه عن مدار شخصية بيير بيزوكوف. وكان تجسيده لها هو الأكمل والأقوى، وبدا كما لو أنه يرى بعيني الشخصية ويسمع بأذنيها، ويتوخى أدق مشاعرها، ويذهب بعيداً مع تأملاتها في الحياة والبشر، مُؤرقاً بهواجسها وأفكارها وأسئلتها. وأكثر ما أجاده الممثل وأحكمه، هو ضبط إيقاع الشخصية طوال الحلقات بانتظام، ما سمح للمشاهد أن يتابع في هدوء وتركيز، وأن يندمج تماماً مع خيالٍ صرف، يربطه مباشرة برواية تولستوي ونصها الأصلي. وحافظ الممثل على طبقة صوت متوسطة أقرب إلى المنخفضة، إلا في لحظات الانفعال القوية بالطبع وهي قليلة. وكان هذا الصوت يخاطب مخيلة المشاهد، ويُقنع السمع بقوة، كما أقنع الممثل البصر أيضاً، من خلال الشكل الخارجي والأداء الجسدي البارع، ولم يقع في خطأ تحويل الشخصية إلى نمط الضعيف، أو الساذج الذي لا يفهم جيداً ما يجري حوله، أو نمط المقامر المخمور. فإن بيير بيزوكوف ليس كذلك، ووراء بساطته الظاهرية هناك الكثير من المشاعر المعقدة، كما أنه يمر ببعض التحولات الفكرية، ويواجه أزمات صعبة كادت تحوله إلى قاتل. فقد جعل تولستوي بطله الروائي يعاني من مشكلة أساسية، هي أنه كان ابناً غير شرعي للكونت بيزوكوف. ما خلق لديه الإحساس بأن لا مكان له في هذه الدنيا، وليس من حقه أي شيء. وقد عبّر الممثل عن هذا بواسطة جسده المنغلق على نفسه دائماً، ويحاول أن ينكمش في أضيق مساحة ممكنة عندما يوجد بين الناس.

الثروة والمغفرة

أدى الممثل شخصية بيير في مختلف مراحل حياته، وتبدل أفكاره وأحواله أيضاً، من ابن غير شرعي، إلى الوريث الوحيد المعترَف به، الذي بات يحمل لقب الكونت بيير بيزوكوف، خلفاً لأبيه الذي اعترف به في لحظات احتضاره. ومن مُعجب بنابوليون بونابرت بعد عودته من باريس التي تلقى تعليمه فيها، إلى محارب ضده عندما قام بغزو روسيا. ومن زوج تعيس يحيا بلا حب مع زوجة خائنة، إلى عاشق يختبر الحب لأول مرة. ومن ثري يشعر بأنه لا يستحق كل هذه الثروة، ويرى أنه ليس من العدل أن يمتلك فرد كل هذا المال وحده، ويتمنى إعادة توزيع الثروات، إلى إنسان معتدل يساعد الناس بطرق أخرى، دون أن يتخلى عن ثروته. ومشاهد العفو والمغفرة من المشاهد المتكررة في دور بيير، فهو يغفر لأبيه عند احتضاره، ويغفر لصديقه دولوكوف الذي خانه مع زوجته، بعد أن تجمعهما الحرب مرة أخرى، ويغفر لزوجته الخائنة ولشقيقها ولأبيها أيضاً، ويسامحهم جميعاً على استغلالهم له، وخداعهم وطمعهم في أمواله. كما يطلب من آندريه أن يغفر لناتاشا انجذابها لأناتول وهي لا تزال خطيبة له، ويحث ناتاشا أيضاً على أن تسامح نفسها، وأن تتطلع إلى حياتها المستقبلية.

بول دانو في دور بيزكوف
وتمثيل دور بيير بيزوكوف تجربة شعورية رائعة، يجب أن يستمتع بها الممثل أولاً، ليستطيع أن يُمتع المشاهد في ما بعد. وهو ما فعله هذا الممثل الموهوب بالفعل، وقد منحه اعتماده على الداخل، سعةً في الأداء، ووفر له هذه الحيوية التعبيرية، في شرح أفكار الشخصية المرهفة، وخواطرها النفسية وتأملاتها الذاتية. وكان يستخدم حواسه كافة من أجل ذلك، ويعتمد كثيراً على نظرة العين والصمت، ومشاهده الصامتة الخالية من الحوار جاء بعضها قوياً للغاية، رغم اعتماده على وسائل أخرى للتعبير، كالمضغ مثلاً، في مشهد تناوله للطعام وحيداً في منزله، بعد عودته من الحرب ونجاته من الأسر، وبعد أن نام طويلاً في فراشه لا يستيقظ لأيام. وعندما يكون على وشك الانقضاض على قطعة اللحم الموجودة أمامه على المائدة، يتوقف فجأة، ويتناول قطعة صغيرة من البطاطا، ويمضغها على مهل، بطريقة تعبر عما يشعر به من حزن وأسى وامتنان عظيم أيضاً، لذلك الرجل الذي كان أسيراً معه في الحرب، واقتسم معه يوماً، حبة البطاطا الوحيدة التي كانت في حوزته. أما حزنه فكان بسبب قتل هذا الرجل المريض الطيب، بينما كان هو يُكمل سيره قسراً تحت تهديد السلاح، ولا يستطيع أن ينظر إلى الخلف، ليلقي نظرة وداع على صديقه الذي جمعته به أحلك الأوقات. جسّد الممثل بيير كما هو، كشخص عطوف شفيق، اختار أن يغفر للجميع زلاتهم، وأن يرحم ضعفهم البشري ويسامحهم على ما ارتكبوه في حقه من خيانات وإساءات. كان هذا قراره الشخصي، فهو لم يكن خانعاً ولا منهزماً، بل كان يغفر بوعي وعن اقتناع، ويُفسح مجالاً لأن تتسرب من قلبه مرارة الألم الناتج عما تلقاه من أذى.

غنائية برودواي

تتناول غنائية برودواي «ناتاشا، بيير ـ مُذنّب 1812 العظيم» جزءاً محدوداً من رواية «الحرب والسلام» يبدأ بقدوم ناتاشا مع عائلتها إلى موسكو، بعد سفر خطيبها آندريه. وينتهي عندما يشعر بيير بالحب لأول مرة في حياته. وتُركز الغنائية كما يدل عنوانها، على ناتاشا وبيير، وعلاقتهما التي نشأت متأخرة، بعد أن مرّ كل منهما بأحداث وتجارب قاسية. وكذلك على عام 1812 الذي شهد ظهور المُذنّب العظيم. وقد لعب دور بيير في هذا العمل، المغني الأمريكي جوش غروبان، الذي يمتلك صوتاً رائعاً يكاد يقترب من أن يكون أوبرالياً. لكنه يُخفق أحياناً عندما يقدم أغانيه الخاصة الحديثة، بينما يتألق في إعادة غناء بعض الأعمال القديمة. وقد أظهر هذا الدور موهبته الكبيرة في الغناء والأداء التعبيري والتمثيل بالصوت، وبدا ملائماً أيضاً من الناحية الشكلية، وكان حينها مكتسباً لبعض الوزن الزائد. وركزت أغنيات بيير على حيرته الفكرية، وشعوره بأن هناك خطأ ما في هذا العالم يجب إصلاحه، وعدم رضاه عن نفسه، وفقدانه للحب، رغم أنه متزوج، وخوفه من أن يموت قبل أن يعرف ذلك الحب، ومشاعره عندما أحس بأول لمسات الغرام تحرك قلبه تجاه ناتاشا، رغم أنه يعرفها منذ طفولتها، لكنه عند لحظة معينة، رآها وتفاعل معها بشكل مختلف تماماً.

 

أما آخر ما يغنيه بيير، فهي أغنية «مُذنّب 1812 العظيم» المستوحاة من بضع سطور قليلة رائعة وردت في رواية تولستوي. ويؤديها جوش غروبان بإحساس مرهف يحمل الكثير من الصفاء، على أنغام الغيتار والكونترباص والأوكورديون، وتصف الأغنية حال بيير بعد خروجه من منزل ناتاشا، ليسير في شوارع موسكو في ليلة باردة.

ومن أول هذه الأغنيات، أغنية بعنوان «بيير» التي يأسف فيها على نفسه وما آل إليها حاله، ويردد قائلاً: «كنت أفضل من هذا، كنت أفضل من هذا». فهو لم يكن يظن أن ينتهي به الأمر كرجل غارق في الخمر، يجلس في البيت، يقرأ لساعات وساعات، ويقترب من أي شيء قد يحقق له النسيان، بينما أقرانه يواجهون الموت في الحرب. ويعدد في الأغنية مظاهر بؤسه، ومنها أن النساء يشفقن عليه، لأنه يعيش الحب ولا يعرفه رغم أنه متزوج. وتوضح الأغنية أيضاً جانباً من أفكاره، وانتقاده للحياة الخاطئة وللبشر الذين يدركون هذا لكنهم يتجاهلونه، كما تُظهر رغبته في استعادة نفسه، واستغلال اختلافه عن البشر في أن يصنع شيئاً. كانت هذه الأغنية تقديماً موسيقياً رائعاً لشخصية بيير، بإحساسها العميق، وأدائها الدرامي، وما لهما من تأثير في المستمع. ومن أجمل أغنيات بيير الأخرى، أغنية بعنوان «غبار ورماد» التي هي عاصفة من المشاعر والأسئلة، التي تهاجم بيير وتخلق في نفسه الخوف والغضب، والرغبة في الخروج من حالة لا يرضاها، وتبدأ الأغنية بأسئلة عن موته على هذه الحال، بحزن وارتعاش قليل في الصوت، وأسئلة أخرى عن طبيعة الحياة التي عاشها، وعن أفعاله فيها، فهل كان جيداً وطيباً بما فيه الكفاية أم لا. يزداد الغضب تدريجياً وحدّة انفعالات الصوت، عندما يقول إنه بحث في كل مكان ولم يجد شيئاً، وأنه قرأ كلمات الشعراء والقديسين والأنبياء، وكل ما عرفه في النهاية هو أنه لا يعرف شيئاً. وتعبّر الأغنية عن تصور بيير للحب، الذي يراه كيقظة روحية وحسية، فالناس نيام حتى يقعوا في الحب. ثم يناجي الله في النهاية، ويرجوه ألا يُميته نائماً، ويعلن أنه مستعد لليقظة، أي للوقوع في الحب. أما آخر ما يغنيه بيير، فهي أغنية «مُذنّب 1812 العظيم» المستوحاة من بضع سطور قليلة رائعة وردت في رواية تولستوي. ويؤديها جوش غروبان بإحساس مرهف يحمل الكثير من الصفاء، على أنغام الغيتار والكونترباص والأوكورديون، وتصف الأغنية حال بيير بعد خروجه من منزل ناتاشا، ليسير في شوارع موسكو في ليلة باردة. لا يعرف إلى أين يتجه، لا يريد العودة لبيته، ولا يرغب في الذهاب إلى أي من أماكن السهر المعتادة، ولا أن يرى أحداً من البشر، فكل شيء أصبح لا قيمة له بالمقارنة مع ما يشعر به. فهو يحس بالحب لأول مرة في حياته كلها، ينظر إلى السماء ويرى المُذنّب العظيم، الذي ظهر عام 1812، وظن الناس أنه ينذر بنهاية العالم، لكنه تواصل بطريقة ما مع هذا المُذنّب، ولم يخف منه، وبدا له أنه قد توقف من أجله هو، وأنه يفهم مشاعره، ويحس بقلبه الذي بدأ يذوب غراماً، وبروحه التي تسمو وتزهر في حياة جديدة.

*كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي