صمت الأمهات في روسيا على بوتين لن يدوم

د ب أ- الأمة برس
2022-06-07

بعيدا عن أن روسيا هي التي تغزو أوكرانيا الآن، فهناك صور الجنود الروس وهم يسلبون وينهبون ويغتصبون الأوكرانيات (ا ف ب)

نيويورك: أثناء الغزو السوفيتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين، كان الجنود السوفيت القتلى يعودون إلى بلادهم في صناديق معدنية لا تحمل سوى عبارة تقول "قُتل أثناء أداء الواجب الوطني". ولكن أمهات الجنود رفضن الاستسلام لمنطق الصمت ونظمن حملات أجبرت الجيش الروسي على الكشف عن حوادث الموت والإصابة بين الجنود.

ومرت الأيام وجاءت الحرب الروسية في الشيشان، ونظمت أمهات الجنود مظاهرات في عاصمة الجمهورية جروزني للمطالبة بعودة أبنائهن إلى الديار بصحبتهن. والآن يبدو أن التاريخ سيعيد نفسه وسيجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه أمام موجة غضب قوية من جانب أمهات الجنود الروس الذين يدفع بهم إلى أتون الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وتقول الكاتبة الأمريكية كلارا فيريرا ماركيز في تحقيق نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إن آلة دعاية بوتين قد روجت على مدى سنوات حكمه لصورة الدولة القوية التي يقودها زعيم لا يقهر، ولديه جيش منضبط  يحيط به الأعداء من كل جانب ويقاتل من أجل مستقبل الوطن الأم، وهو ما يتناقض حاليا مع ما يجري في الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

وبعيدا عن أن روسيا هي التي تغزو أوكرانيا الآن، فهناك صور الجنود الروس وهم يسلبون وينهبون ويغتصبون الأوكرانيات، وتحولت ما كان يفترض أن تكون حربا خاطفة إلى حرب استنزاف باهظة التكلفة. وهناك صور الجنود الروس الذين قتلوا في المعركة والمعلقة على جدران  الحوائط في المدن الروسية وتحتها عبارة "بطل النصر" رغم أنه لا يوجد نصر فعلي حتى الآن. كما يردد الإعلام الروسي شعار "نحن لا نترك أحدا من شعبنا خلفنا" رغم أن القوات المسلحة الروسية تفعل ذلك باستمرار وتترك جثث الجنود الروس القتلى إما في الوحل أو في المشارح الأوكرانية المؤقتة.

ورغم سيطرة السلطة الروسية على كل ما ينشر في الإعلام المحلي عن الحرب الأوكرانية، فهناك حقيقة واحدة سيعاني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه في إخفائها وهي هؤلاء الرجال الذين يعودون قتلى إلى الوطن.

فهناك شريحة لا يمكن للسلطة مهما كانت أن تحاصرها أو تعزلها عن المجتمع وهي أمهات وزوجات وبنات الجنود، خاصة مع تزايد الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها العائلات الروسية على خلفية الحرب. وقد أدى غضب الأمهات والزوجات والبنات في الماضي إلى استنفار الرأي العام الروسي، مرة ضد الحرب في أفغانستان وأخرى ضد الحرب في الشيشان، وحتى عندما غرقت الغواصة الروسية كورسك  وعلى متنها 118 فردا في عام 2000.

فخسائر روسيا في أوكرانيا تتزايد، وإن كانت بوتيرة أبطأ مقارنة بكوارث الأيام الأولى للحرب. ورغم أنه من الصعب تقديم تقديرات دقيقة لهذه الخسائر البشرية لأن وزارة الدفاع الروسية توقفت عن نشر أرقام القتلى والمصابين منذ 25 آذار/مارس الماضي، كما أنها تعلن أرقاما مخفضة بشكل كبير، حيث تقول إن 1351 عسكريا فقط قتلوا في المعارك.  كما أن البيانات الأوكرانية مبالغ فيها بشدة حيث تتحدث عن مقتل 30 ألف عسكري روسي. ولكن حتى إذا كان الرقم الصحيح هو نصف هذا الرقم فإنه سيكون قريبا من الخسائر الرسمية التي أعلنها الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب في أفغانستان التي استمرت نحو 10 سنوات.

 وتقول ماركيز  إن قدرة الأمهات على الضغط على الجيش من أجل المزيد من الشفافية بشأن الحرب في أفغانستان في أواخر الثمانينيات، وتأثيرهن خلال الحرب في الشيشان في التسعينيات، بل وحتى أثناء كارثة الغواصة كورسك ، ارتبطت بالحرية الإعلامية والسياسية النسبية في ذلك الوقت. لكن مع نجاح الرئيس بوتين في إحكام قبضته على الإعلام والحياة السياسية، أصبح دور الأمهات للتأثير على القرار السياسي بشأن الحرب في أوكرانيا أصعب، خاصة في ظل الرسالة الرسمية التي تمجد الضحايا مع السيطرة على الإعلام  وعدم التسامح مع أي نوع من الاحتجاجات الشعبية.

 كما تشير جولناز شارافوتينوفا  الباحثة في كينجز كوليدج بلندن  إلى أنه على عكس الحال أثناء الحرب في أفغانستان أو حرب الشيشان الأولى، عندما كان المجتمع الروسي يتمتع بقدر أكبر من المساواة، وكانت كل العائلات متضررة من الحرب، فإن أغلب ضحايا الحرب الدائرة في أوكرانيا ليسوا من المجندين وإنما من المتعاقدين من أبناء الأقليات والفئات المهمشة والمناطق النائية الذين التحقوا بالجيش هربا من الفقر، وبالتالي لا يتمتعون ولا عائلاتهم بأي ثقل سياسي.

وفي تحليل أجرته الخدمة الروسية في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" فإنه من بين حوالي 1100 قتيل روسي في أوكرانيا لا يوجد جندي واحد من سكان العاصمة موسكو التي يبلغ عدد سكانها  حوالي 13 مليون نسمة. و يوجد 5 قتلى فقط من منطقة موسكو الكبرى وواحد من مدينة سان بطرسبرج. في حين يوجد 52 قتيلا من أبناء جمهورية بورياتيا التي لا يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة، و93 قتيلا من أبناء جمهورية داغستان التي لا يزيد سكانها عن ثلاثة ملايين نسمة.

 وهناك حقيقة بسيطة أخرى وهي أن الموت البطولي للجنود القتلى يسهل على عائلاتهم قبول الموت وهو ما يجعل هذه العائلات أكثر استعدادا لتقبل الرواية الرسمية حتى لو كانت تتعارض مع تجاربها المباشرة. وعندما كتبت الكاتبة السوفيتية الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب سيفتلانا ألكسفيتش المولودة في أوكرانيا عام 1948  كتابها الشهير  عن الجنود في الحرب السوفيتية في أفغانستان وعائلاتهم تحت عنوان "أولاد في الزنك" إشارة إلى التوابيت التي عادت فيها جثثهم، تعرضت للتهديد. وفيما بعد أقامت بعض أسر الجنود دعاوى قضائية ضدها. وأثناء جلسات المحاكمة حضرت بعض الأمهات ومعهن صور أبنائهن القتلى مع ميداليات وشارات الأبناء، بحسب ما كتبته ألكسفيتش فيما بعد.

وأضافت أن الأمهات قلن لها "نحن لا نحتاج إلى حقيقتك، لدينا حقيقتنا الخاصة".

 لكن السيطرة على غضب الأمهات والعائلات لن يدوم طويلا، خاصة مع تزايد أعداد القتلى الروس. وستزداد الخطورة مع غرق كل طراد من البحرية الروسية أو تعرض فوج من المظليين الروس لخسائر كبيرة، خاصة في ظل استمرار غموض هدف الحرب في أوكرانيا.

في المقابل فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتواصل مباشرة مع الأمهات الروس. وقد أنشأت الحكومة الأوكرانية خط هاتف ساخنا، وقناة عبر تطبيق تيليجرام، وموقع إنترنت لنشر صور الجنود الروس الأسرى لخدمة عائلات الروس التي تبحث عن أبنائها المفقودين في الحرب.

 وفي حين كان الرئيس الروسي بوتين يصر في بداية الحرب التي قال إنها لن تزيد عن ثلاثة أيام، على أنه لا يوجد جنود نظاميون روس يشاركون في القتال على أراضي أوكرانيا، فإنه الآن يواجه خطر الاضطرار إلى ذلك، بعد أن خفض الحد الأدنى لسن الشباب الذين يمكنهم التعاقد مع الجيش الروسي للمشاركة في القتال بأوكرانيا، واحتمالات اللجوء إلى أفراد الاحتياط وجنود التجنيد الإجباري لمواجهة الخسائر الكبيرة في صفوف قواته.

أخيرا، هناك تركيز من جانب بوتين على النساء كأمهات، في ظل معاناة روسيا من انكماش عدد سكانها. لذلك سعى الرئيس الروسي على سبيل المثال إلى إعادة اللقب السوفيتي "الأم البطلة" لتكريم النساء اللائي ينجبن عددا كبيرا من الأطفال. لكن سيكون من الصعب على النساء قبول التكريم ثم الصمت على الخسائر البشرية المتزايدة للقوات الروسية في أوكرانيا، وتدهور الأحوال الاقتصادية في الداخل.

وتختتم ماركيز تقريرها بأنه لن تستطيع الأمهات والزوجات الإطاحة ببوتين ولا إنهاء الحرب في أوكرانيا، تماما كما لم يستطعن إجبار القوات السوفيتية على العودة من أفغانستان ولا تفكيك الاتحاد السوفيتي. لكن حزنهن وتزايد أعداد الضحايا، بما لا تستطيع معه الدعاية الرسمية في موسكو تغطيته بمجرد الكلام البراق، سيلطخ سمعة الجيش ويهدد الدولة بعواقب لا يمكن التنبؤ بها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي