المقهى.. مكان للتلصص والتقاط الأفكار

2022-06-03

عاطف محمد عبد المجيد

يُعتبر المقهى مكانا يجذب إليه مرتاديه خاصة الأدباء منهم، إذ يذهب بعضهم إلى المقهى للقاء الأصدقاء والثرثرة الثقافية معهم وممارسة فعل النميمة، وبعضهم يجلس في المقهى ليكتب ويقرأ، وبعضهم ليندس وسط ضجيجه مراقبا المارة قاتلا الوقت. ولقيمة المقهى عند الكتاب والأدباء فقط أصابهم الحزن الشديد حين تسبب انتشار فيروس كورونا في إغلاق المقاهي، وبالتالي عدم وجود مكان يمارسون فيه طقوسهم كما يحلو لهم.

كافيهات بلوند

في كتابه «كافيهات.. حكايات عن مقاهي باريس» الحاصل في عام 2019 على جائزة جورج براسان، ويهديه إلى مارتين مستهلا إياه بمقولة أراغون «مكثتُ طويلا خلف كوب الماء المنكّه بالنعناع» وأنجز ترجمته عن الفرنسية أحمد القرملاوي، يُدْخل الكاتب والروائي الفرنسي ديديه بلوند قارئه معه إلى المقاهي بكل تفاصيلها: أبوابها الدوارة، طاولاتها التي في الخارج وتلك التي في الداخل، الندّل، الكؤوس، الأكواب، الحمامات، ستاندات الجرائد، المرتادين، إلخ. يمكنني شخصيّا أن أعتبر أن كتاب كافيهات بلوند هذا بمثابة الكتاب التسجيلي والتوثيقي الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة تخص عالم المقهى، جمادا أو إنسانا، إلا ورصدها وسجل شيئا ما يخصها. هنا يبدأ بلوند متحدثا عن المقاهي التي ارتادها، سواء داخل فرنسا أو خارجها، بوصفه للمقهى معتبرا دخوله للمقهى كدخوله في رواية، متحدثا عن المكان وزائريه وطرازه، ديكوره، إيقاعه، إنارته وطاولاته البارزة والمنزوية. هنا وفي كتابه هذا الذي صدرت طبعته الفرنسية عن دار نشر مركير دو فرانس، فيما صدرت حديثا نسخته العربية عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، يكتب ديديه بلوند عن اختياره للمقهى الذي يناسبه، معلنا رفضه الجلوس في المقاهي التي يجتاحها الضجيج بكل أنواعه. هنا وفي كتابه عن «الكافيهات» يكتب عن: فاتورة المقهى التي تحدد مكان جلوسه ويومه وساعته بالضبط، عن فنجان القهوة، عن كوب الماء الصغير الخام العادي جدّا الأبيض الشفاف، وعما فيه من ماء لا لون ولا طعم ولا رائحة له ولا يشرب سواه لأنه ماء باريسي أثير لديه. مثلما يتحدث عن كراسي المقاهي وكنَبها، عن حماماتها ووجودها في أماكن في الداخل كما لو كانت تختبئ كأماكن سرية أو سيئة السمعة، وعن المفقودات التي يتركها رواد المقاهي أو ينسونها ثم يعودون ليسألوا عنها، وعن المرايا التي تزين جدران المقاهي.

أشياء وأشخاص

في كتابه كافيهات يترصد ديديه بلوند لكل أشياء وأشخاص المقاهي، لا يترك شيئا أو شخصا دون أن يراقبه ويتأمل أفعاله، مسجلا كنهه كشيء وفعله كشخص، ها هنا في تلك الصفحات التي تفوح منها روائح القهوة والنبيذ والبيرة وما إلى ذلك مما يمكن أن يُقدم في المقهى.

ديديه بلوند

ديديه بلوند يكتب هنا، أو يسجل حياة الآخرين مراقبا إياهم عن قرب، موثقا تفاصيل ما يفعلونه أمام عينيه داخل المقهى: ثلاث سيدات، حبيبان، ثلاث فتيات، مُدرس، شقراء طويلة، أم وابنتها، كوميديانان، امرأة مُسنة… هنا نعرف أن المقهى قد يكون مكانا للحلم بالنسبة للبعض، أو مكانا للحصول على الراحة والاسترخاء بعيدا عن صخب الحياة وضغوط العمل، وربما كان مكانا للتلصص على الآخرين ومراقبة حركاتهم وسكناتهم، وربما كان مكانا لإطلاق العنان لشرود الذهن ولفصل العقل عن الواقع، وربما كان لأشياء أخرى، حيث يبدو أن هناك سببا لكل مرتاد يجعله يقضي وقتا طويلا أو قصيرا داخل صالات المقاهي: المقهى مكان للتحري، للمراقبة، لليقظة، للملاحظة الدقيقة بالنسبة للبعض، علامة على الطريق للبعض الآخر، مكان للجوء، مكان للا مكان بالنسبة للبعض الآخر أو للقاءات التي تحدث دون ترتيب، لمن يحاول أن ينسى نفسه، أو أن يختفي عن الأعين، في المقهى نصير أكبر من أعمارنا، وربما أصغر، معروفين أو متخفين. هناك نشرب البيرة، أو الماء بالنعناع.

الحلم بكتابة رواية

في المقهى يجلس ديديه بلوند لا ليحتسي القهوة فقط، ولا ليراقب الآخرين حسب، بل يجلس لكي يلتقط الأفكار وهي تعبر أمامه على غير توقع. هنا في كتابه عن الكافيهات يعلن ديديه بلوند أنه كان يحلم بكتابة رواية عن أحد المقاهي، أو عن الكومبارس الموجودين فيه، رواية تدور أحداثها في مكان واحد وفي يوم واحد. كان ديديه يحلم بكتابة رواية عن المقهى، لكنه استطاع في الأخير أن يكتب كتابا، لا رواية، غير أن الكتاب لا يختلف كثيرا عن روايات كثيرة جدّا تصدر الآن، بل لن يخطئ من سيعتبر هذا الكتاب رواية، حتى إن لم يكن الكاتب قد صنّفه كذلك.

كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي