وسائل وأساليب السلطة في رواية «سيرة حمار» للمغربي حسن أوريد

2022-05-27

موسى إبراهيم أبو رياش

كل سلطة، أي سلطة ـ غالبا- هي سلطة ظالمة، متوحشة، مخادعة، أنانية، نرجسية، حتى إن بدأت مثالية نموذجية، أو ذات أفكار وغايات سامية، فسرعان ما يتبدد نبلها، وتتلوث طهارتها، ويتعكر صفاؤها، وتسعى تدريجيا لتحصين ذاتها والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب. وباطن السلطة يختلف عن ظاهرها، وما تقدمه لصالح أتباعها هو جزء من مخططها للسيطرة، فتقديم الفتات يضمن استمرارية خضوع القطيع وانقياده. والصراع على الفوز في أي مستوى من مستويات السلطة والنفوذ يؤكد ذلك، حيث تُداس القيم، وتُستحل المحرمات، وتنفق الأموال، وقد تزهق الأرواح، في حروب تصغر وتكبر حسب المصلحة المُرتجاة!

تناولت رواية «سيرة حمار» للروائي المغربي حسن أوريد العديد من الموضوعات والقضايا، حيث وظفت الحمار للكشف ونبش الخفايا وجلاء الحقائق، ولا يتعلق ذلك بعصر الرواية، بل بكل زمان ومكان، فلا اختلاف جذريا بين الأمس واليوم إلا في المظاهر. وتستعرض هذه المقالة بعض الأساليب والوسائل التي تلجأ إليها السلطة لتثبيت أركانها وتحقيق مصالحها:

استغلال الدين

في رحلة الشاب المتعلم المثقف «أذريال» بعد أن تحول إلى حمار «أسنوس» بفعل شراب سحري على يد الخادمة «حاتبوت» تم تتويجه معبودا «لبني سنوس» الذين كانوا يعدون الحمير، وكان «أذريال» يفكر كالبشر، ويتصرف كالحمير مضطرا، فلا خيار لديه وهو على هيئتها. وعند «بني سنوس» تأكد له أن كبيرهم/حاكمهم لا يؤمن به «لكنه يظهر الإيمان بما تؤمن به الجماعة، وهو محتاج لذلك لأنه به يتحكم في رقاب الجماعة، التي تشتغل لصالحه، وهو المستفرد بخيراتها وأموالها وبنيها ونسوتها» والحال نفسها عند أعدائهم «بني ييس» الذين يعدون الخيل، فالحاكم لا يؤمن بأي معبود، لكنه مضطر للتظاهر بذلك «لأن الطغام تؤمن به»؛ فالدين أكثر الأسلحة تأثيرا على الأتباع، ويسهل قيادهم وإخضاعهم والتحكم بمصائرهم، فلا أسهل أن تصبغ أي أمر بصبغة دينية، أو تلبسه لباسا دينيا لتحقيق ما تريد دون عوائق، فاستغلال العواطف الدينية يذلل كل صعب أمام السلطة.

وباستغلال الدين، تحتكر الفئة الحاكمة تفسير «سير الأمور بظواهر غير طبيعية، فتزعم أن توليتها للأمر أمر أرادته السماء، وأن من لم يرضخ لذلك تعرض لغضبها» وتحرص هذه السلطة أن تبقي رعيتها متخلفة محتاجة، وتمنعها من الاختلاط بغيرها من العوالم، بحجة أن تلك العوالم شر، وتنشر عنها قصصا ترعب الأتباع، ليقتنعوا بما يزعمون، ويرضوا بأوضاعهم مهما كانت مزرية وبائسة. كما أن هذه السلطة تستغل الاختلاف الديني مع الغير لصناعة العدو، وتوهم أتباعها بأنه مصدر كل شر، ليترك لها حرية التصرف واتخاذ القرار في ردع هذا العدو والخلاص منه.

افتعال الصراعات الداخلية

بقاء السلطة مرهون في كثير من الأحيان بديمومة الصراعات والتناقضات الداخلية؛ إذ أن انشغال الرعية بخلافاتها والتنازع على المصالح يضمن بقاء السلطة في مأمن من متابعتها والنبش خلفها ومحاسبتها، ولذا تحرص هذه السلطة على إذكاء الصراعات وتفجيرها بين الحين والآخر لأسباب طائفية أو عرقية أو إقليمية أو عشائرية أو طبقية وغيرها، بل تتفنن في توليد الأسباب وتنوعها ووجاهتها. في مربض عام للحيوانات، وجد الحمار نفسه مع بقرة وديك وكلب، على ما بينها من اختلاف وتباين، ما أوقعه في مأزق لا يحسد عليه، يقول معبرا عن حالته: «وظللت ملقى لأيام بالمربض لا أنال من طعام إلا ما يفُضُل عن البقرة، ولا أظفر بنوم إلا ما يريده الديك، ولا أتحرك إلا في الحيز الذي يسمح به الكلب». وكان بإمكان الحمار أن يستخدم قوته البدنية الهائلة، وينال ما يريد، لكنه مسالم حديث عهد بعالم الحيوانات، وهكذا كل مسالم يضيع حقه تحت سمع وبصر السلطة التي لا تتدخل، مع علمها بوجود الظلم والظلمة، فهي تستعذب ما يحدث من صراعات داخلية تبقيها في منأى عن أي مسؤولية، وإذا كان الشعب يأكل بعضه بعضا، فما شأنها بذلك؟ وهل السلطة أرأف بالشعب من نفسه؟!

تدعم السلطة كل ما من شأنه إلهاء الرعية وانصرافها عنها، ومن ذلك ألعاب السيرك والمبارزات، ولذا فقد كان السيرك الذي يرقص فيه الحمار يحظى برعاية السلطات واهتمامها، كما أنها ترعى مبارزات الموت بين السبع والإنسان، أو بين السبع وغيره من الحيوانات، مرسخة في وجدان الجمهور أن البقاء للأقوى والأكثر وحشية.

فنون الإلهاء

تدعم السلطة كل ما من شأنه إلهاء الرعية وانصرافها عنها، ومن ذلك ألعاب السيرك والمبارزات، ولذا فقد كان السيرك الذي يرقص فيه الحمار يحظى برعاية السلطات واهتمامها، كما أنها ترعى مبارزات الموت بين السبع والإنسان، أو بين السبع وغيره من الحيوانات، مرسخة في وجدان الجمهور أن البقاء للأقوى والأكثر وحشية، وكأن الجمهور بذلك يشرعن للسلطة تفرعنها وبطشها، ويستغرب الحمار من ذلك، يقول: «والغريب في الأمر أن الجمهور ينسى أن من ينازل السبعَ إنسان، فيهتفون للنزال، ويفرحون للمبارزة، وينسون ما يتخللها من آلام وجراح يلقى فيها الإنسان حتفه غالبا». ويستخلص الحمار من ذلك «أن لدى الإنسان شعورا عدوانيا مستترا. ولم تكن المنازلات التي يسهر عليها منظمو ألعاب الحلبة إلا تعبيرا عن هذا الجانب العدواني. فكان الناس يهتفون ويصرخون لمنظر الدماء والأشلاء». ويؤكد أنه بعد تفكير وتأمل، تبين له أن المنازلات السياسية بين المتنافسين أشبه بمنازلات الحلبة، كلها تحظى بتصفيق الجمهور وتتستر على الجانب العدواني، وأن الجمهور يستمتع بذلك ولا يسأل عن الوسائل الدنيئة والأساليب القذرة للفوز، فهو يصفق للمنتصر أيا كانت وسائله وأهدافه، باعتباره يجسد القوة، ويتساءل: «أليست السياسة سيركا من نوع خاص؟!».

ويحلل الحمار العلاقة بين القرد والأسد، حيث يعملون معا في السيرك، يقول: «قدرت بادئ الأمر أن السبع هو الذي يتحكم في القرد، لكني أيقنت بعدها أن القرد هو الذي يتحكم في السبع، وأن القرد يرضى ببعض نزوات السبع فيجاريها، لكنه يعرف تأثيره فيه، لأن السبع لا يستطيع أن يكون سبعا دون قرد».

تضخيم الإنجازات

تضخيم الإنجازات، وجعل «من الحبة قبة» من أساليب السلطة في حصد الإعجاب والولاء، ومن ثم الانقياد والتسليم، فهي تصنع من الإنجاز التافه شيئا عظيما وفتحا مبينا، ولو فعله مواطن عادي لما عُدَّ شيئا مذكورا، لكنها الآلة الإعلامية السلطوية، التي تنفخ وتنفخ حتى يتراءى للناس أن القشة جسر عظيم، وسؤال مواطن عن حاله عرضا سهرٌ على الشعب ومتابعة حثيثة لا تتوقف آناء الليل وأطراف النهار.

عندما اختفى «أذريال» وجيء بثيابه ملطخة بالدم، قام الحاكم خطيبا، يدعي أنه أرسل الفرق للبحث عن الشاب المفقود، وأنه وجد مقتولا، ومدح الفقيد وبالغ، وحذر من أن المدينة تتعرض لأخطار داهمة وظروف عصيبة؛ ليستدر عطف الناس، وتقديرهم لجهوده، يقول «أذريال» في صورته الحمارية: «وهل حاكم المدينة صادق في زعمه، أم أنه محتاج للتلويح بخطر ليخفي فضائحه المالية التي سرت وفشت، وتهدد إعادة تعيينه تارة أخرى؟» ويضيف: «لم تكن خطبته تخرج عن سياق التعابير المعتادة ولا المصطلحات المتداولة، وكان ما يهم الحاكم هو أن يقدم نفسه مدافعا عن المدينة، صائنا لكرامتها، صارما حيال أولئك الذين يريدون بالمدينة سوءا، ومتوعدا بالانتقام من هؤلاء الذين امتدت أيديهم إلى المدينة واغتالوني» ويسخر من خطاب الحاكم ومن على شاكلته: «وهل يستطيع الساسة أن يخرجوا من خطاب مرسوم سلفا؟ هل يستطيعون أن يروا أبعد مما تتيحه مصالحهم، أو ما تفرضه تحالفاتهم من أجل منصب، أو عهدة، أو لقب».

وفي السياق ذاته فقد تم القبض على الحكيم بتهمة خطف حمارين لجآ إليه برضاهما، وأحيل إلى المحاكمة، وضخم الأمر كثيرا حتى «لا يستبعد أن يكون ضمن شبكة خطيرة تتهدد المدينة» وعزفت السلطة على يقظتها وعيونها الساهرة.

وبعد؛ فإن رواية «سيرة حمار» للمغربي حسن أوريد، كما يقول الناقد زياد جيوسي «تحيلنا إلى فكرة مختلفة وفلسفية، حيث يتحول المثقف والمتعلم إلى حمار يفكر كإنسان ويعيش كحمار ويتعرض لقسوة البشر، كما تتعرض الحمير». وحسن أوريد كاتب وسياسي مغربي، أصدر عددا من الكتب منها: في الرواية: «الحديث والشجن، الموريسكي، صبوة في خريف العمر، الأجمة، ربيع قرطبة، رواء مكة، رباط المتنبي، عالم بلا معالم، زينة الدنيا». وفي الشعر: «يوميات مصطاف، فيروز المحيط، زفرة الموريسكي، صرخة تينهينان، ما يقوله القصب» بالإضافة إلى عدد من الكتب الفكرية والمترجمة.

كاتب أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي