"شراعٌ واقفٌ في عين الهواء" لدُنى غالي: قلقٌ يطالبُ بالمزيد

2022-05-26

أنس العيلة

تقسّم الشاعرة والروائيّة العراقيّة المُقيمة في الدنمارك دُنى غالي، مجموعتها الشعرية الجديدة "شِراعٌ واقفٌ في عينِ الهواءِ" (دار"أطلس"، 2022)، إلى خمسة عناوين كبيرة. العنوان الأوّل "من المدينة التي في داخل الحكاية الخرافيّة" تنضوي تحتَه ثلاث عشرة قصيدة مرقّمة، وتنتهي المجموعة بالعنوان الخامس "بيديّ أرخيتُ الحبلَ ودفعتُ المَرْكب" وتأتي تحته اثنتا عشرة قصيدة مرقّمة أيضاً وبلا عناوين.

في المحصّلة تشمل هذه المجموعة أكثر من ثمانين قصيدة، وتأتي في 140 صفحة. العناوين الخمسة، تبدو كأسماء فصول من شدّة طول كلّ واحد منها، ويُشير هذا إلى غزارة الشاعرة القادرة على كتابة قصائد كثيرة حول نفس الفكرة أو الموضوع، فقد كتبتْ اثنتي عشرة قصيدة، أشارت إلى أنّها مهداة للشاعرة الدنماركية نايا ماريا آيت التي فقدت ابنها، قائلةً في إحدى هذه القصائد "السمّ ماضٍ سريعاً في طريقه، من دون خريطة".

يجد القارئ نفسَه في هذه المجموعة أمام عدّة مستويات من السرد الشعريّ: بعض القصائد تأتي في فقرات ومقاطع لا يبدو للقارئ أنّ هناك ترابطاً منظوراً أو سهلاً بينها، كما نرى في أوّل قصيدة من المجموعة، والتي تحمل رقم "1"، بحيث يبدو السرد مُفكّكاً، متقطّعاً، على شكل لوحات وحالات وجدانيّة وتأمّلات مُنفصلة يجمعها نصٌّ شعريّ عامّ:

"اللحظةُ التي سرَقَتْني عَينا الطِّفلِ، مَرَّت الحافلةُ المُرتقبة.

في اللحظة التي كنتُ أتتبّعُ فيها آثارَ الغُراب على الثلجِ، صَعَد جِدارٌ،

وحالَ دونَ رؤيةِ الغابة.

كَبِرَ الطفلُ، والطريقُ صارَ مَمرّاً ضيقاً كاختيار.

بين التعالي والانسحاق يموجُ تحت السّطحِ الهادئ ذلك الصخَب

من جديد.

فرَحٌ يشوبه الحزن الذي أعرف مبعثَه، يندسُّ أليفاً بين ثقل ملابسي

والروح التي هفّت لذلك الوَهج البعيد خلف العمارات أقصى المدى

حزمة من ضوء خاطف يشطرني مثل فأس حادّ"...

تداخلٌ بفعل قوّة السيولة التي تجرف عناصرها معاً

أمّا في القصيدة التي تليها، والتي تحمل رقم "2"، وتبدأ بعبارة "أتدرّب على ضحكةٍ متهكّمةٍ، أستدعي صور شاعرات منتحِرات"، فنجدُ مستوى ثانياً من السرد الشعريّ، يبدو الترابط أكثر بروزاً بين الفقرات، بحيث يخلقُ سرداً متتابعاً رغم الفراغات التي تفصل بين المقاطع الشعريّة، ويخلق بالتالي خطاباً شعريّاً له حضورٌ وثقلٌ على وعي المُستقبِل، ويشي برغبة في تقرير وإقرار حقيقة ما، وهي هنا ذاتيّة، دون مراوغَة جماليّة قد تخفّف من سُطوع المعنى أو تشتّته. وهذا الأسلوب نجده في قصائد عديدة من المجموعة. بينما نجد في قصائد محدودة، مستوى ثالثاً من السرد، حيث يأتي النصّ في بناءٍ واحدٍ مُطّردٍ، غير مقسّم إلى فقرات أو تفصله فراغات. ويعتمد أسلوباً جليّاً مباشراً، من خلال استعارات وصور حسيّة مفهومة، وذات مراجع واضحة، كما في قصيدة "و ب ا ء"، ذات الأسلوب الوصفيّ السرديّ الصريح:

"إنانا ترمي الكأس بنَزَق

هيئة تذوّق البيرة السومريّة

ترفض أن تقرّ بجودتها

الجوقة تُرتّل حصاد الشعير: هذا العام جافّ

العطش! حنانكِ أيّتها الربّة

قداسة جلالة الملك، البنك المعظّم لا يمنحني حقّ الخطأ لأكثر من

ثلاث مرّات مُتتالية

نسيتُ رقم سحب الفيزا حين الدفع في السوبر ماركت

يُغلِق الحساب، وتختزل الأمكنة واللّغة

المراوحة، من خلف الشاشات

لكنّ كلَّ شيء ما زال فاخراً

حتّى أنت

رائحة الحطب عالقة بي. أجل".

هذه القصيدة هي من القصائد القليلة الفرعيّة في المجموعة التي حملت عنواناً ولم تأتِ مُرقّمة، وتختار الشاعرة كتابة حروفها مُنفصلة "و ب ا ء"،  بما يُوحي ربّما بالانتشار والامتداد. ونجد في هذه القصيدة تدفُّقاً سرديّاً وصفيّاً مباشراً تتداخل فيه أحداث تشهدها الشّاعرة، وحالات تعيشها، وتستنهض إنانا التي تأتي من التاريخ، وظواهر حاضرة مثل الكوفيد في بداية القصيدة، ومشاهد يوميّة من حولها، وسونيتات مسموعة، وفجأةً تتحدّث عن بطاقة الفيزا التي نَست رقمها، والبنكِ المُعَظّم، والسجائرِ التي تصفُها بالطيّبة، ونشرةِ الأخبار، وانطباعاتٍ عن حدود العالم في طريقها إلى المطار. كما في قولها لاحقاً "خرائط العالم بحدودٍ مشتعِلة، مُصوَّرة بكاميرات الطائرات المُسَيّرَة، تخشى الكائنات أن تلامس بعضَها بعضا".

يعبّر هذا التمازج في القصص والمشاهد والأحداث التاريخيّة والشخصيّة، عن حالة من "هلوسة السرد" الذي تتداخل فيه الأشياء، فلا تكاد الشاعرة تَذكر موضوعاً حتى تنتقلَ إلى آخر، فننتقل من الجوقة، إلى البنك، إلى اللغة، إلى الشاشات بسرعة خاطفة، لا عتبات ولا مفاصل بينها، لا يكاد القارئ يستقرُّ على معنى حتّى ينتقل إلى آخر، والفقرات تستدعي فقرات أخرى بشكل فجائيّ خاطف. هو سردٌ منفلتٌ لا ضابط له، يتنقل من مشهدٍ إلى آخرَ، ومن لحظةٍ إلى زمن آخر، ويجري هذا بسرعة، بحيث لا يكاد القارئ يراكم معنى خلال قراءته للقصيدة حتى ينتقلَ لمعنى آخر مختلف.

هذا التناثرُ في النصّ يُنتِجُ قراءة مُتعِبَة شاقّة، بحاجة لمُكابدة وتأمّل، فتبدو فيه الأحداث والحالات المرويّة غير مرتبطة بموضوع مُحدَّد، والتتابُعٍ بلا منطق فنّي واضح، على الأقل بالنسبة للقارئ. ولفهم هذه القصيدة، وكي نستطيع تذوّقها أيضاً، والتذوّق هنا مهمُّ جداً، وإلّا فقدنا تواصُلنا بالنصِّ، يُمكن لنا هنا الاستعانة بما استحدثه عالم الاجتماع البولونيّ زيغمونت باومان (1925 - 2017) عن مفهوم "الحداثة السائلة" Liquid Modernity. كما يرى، فإنّ في عصر ما بعد الحداثة أضحت كلّ الحقائق والوقائع في حالةٍ من السُّيولة والجريان بالتالي فقدَت مفهوم البُنية التي ميّزت ما قبلها من عصر الحداثة.

 فمفهوم السُّيولة "يُفصحُ عن حقيقة العالم الرّخو اللّزِج الذي نحيا في أكنافه، ومن سمات الحداثة السَّائلة السُّرعة في الجَريان، والنفاذِيّة في التواصُل والترابُط، والانتقاليّة اللا مستقرّة في الأوضاع والأحداث؟" وهذا المفهوم الذي طبّقه زيغمونت باومان على كافّة مجالات المعرفة كعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرها، أعتقد أنَّنا نستطيع كذلك تطبيقه على الأدب، والاستعانة به لفهم ما  يُكتب حالياً من شعر في بلداننا العربيّة وبقيّة العالم أيضاً، كون الشعر، الآن، منتوجاً ثقافيّاً من منتوجات عصر ما بعد الحداثة، وتنعكس فيه كذلك حالة السَّيلان التي تُصيب هذا العصر، ويتجلّى هذا في النثر المتدفّق الذي يلهث وراءه القارئ ولا يستقرّ على عتبة تمكّنه من القبض على معنى. كما يجري الانسان لاهثاً في وقتنا هذا أمام الصُّور والمعلومات والمشاهد السريعة الخاطفة والحالات غير المُستقِرّة كما يشير العالم البولونيّ. ففي هذه القصيدة غياب لبناء سرديّ نستطيع من خلاله تحديد ملامحه الواضحة، كأنّ الركائز والنوافذ والأسطح والشُّرفات التي تحدّد من هيكليّة بناء ما، تبدو هنا متداخلة في بعضها، بفعل قوّة السيولة التي تجرف عناصرها معاً.

وتبدو المصادفة مُطابقة إلى حدّ الدّهشة في أمثلة أُخرى، لدى شعراء آخرين، مثل الشاعر حسين البرغوثي، لا سيّما في مجموعته "مرايا سائلة"، حيثُ يستخدم كلمة "سائلة" حتّى في عنوان المجموعة. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ مجموعته تحتوي على حشدٍ كاملٍ من الحقائق والمَعلومات والصّور والانطباعات والتأمّلات التي تتمازَج في سردٍ لا ينقطع، كما أشار إلى ذلك محمد الزقزوق، في "رمّان الثقافيّة"، متحدّثاً عن هذا العمل الشعريّ قائلاً: "فهو بمنظور النقد الأدبيّ المدرسيّ ليس شعراً خالصاً، كما أنّه ليس سرداً فقط، لكنّه مزيج هائل من المركّبات الشعريّة والميثولوجيّة والكلاسيكيّة والمعاصرة والسينمائيّة والمونولوجيّة والروائيّة والقصصيّة كذلك".

وحسين البرغوثيّ في حديثه عن قصائده أيضاً قال: "خطَرت في بالي فكرة أكثر إثارة، لماذا لا أكتب معها أو فيها كلَّ ما أفكّر فيه"، كأنّ العملَ قناةٌ يجري فيها كلّ ما يمرّ ويخطرُ ويدور ويعتمل في رأس الشّاعر. وهذا ما تجسّده أيضاً بعض القصائد في مجموعة دُنى غالي، حيث تكون القصيدة سيلانَ معلومات، وصور، وأمكنة، وشخصيّات، وأزمنة مختلفة، تجري كماءٍ في نهرٍ واحدٍ متدفّقٍ. لذا، فلا يكاد يستقرّ القارئ على معنىً حتّى تجرفُه عبارة أُخرى إلى مكان آخر، أو حالة مختلِفة، أو موضوعٍ آخر. فهي ليست قصائدَ مكثّفةً، وليست مفكّكةً، بل هي سائلة بالمعنى الذي أشار إليه زيغمونت في علم الاجتماع، وبالمعنى الذي أشار إليه حسين البرغوثيّ في الشعر.

تتجنّبُ القصائدُ الانفعالَ في المُجمَل العامّ، كأنّ المشاعرَ مضبوطة، وغير مصرَّح عنها بشكل واضح في أمثلةٍ عديدةٍ، وليست هناك مطالب مرفوعة بالصُّراخ، رغم الإشارات إلى مشاهد تراجيديّة في بعض الأماكن، وقد تصل القراءة أحياناً إلى جوٍّ من الضبابيّة، والمعاني الغائمة، كأسلوب مقصود أو غير واعٍ تعتمده الشاعرة في تأسيس علاقتها مع القارئ، كما يتجلّى ذلك في هذا المقطع:

"حين يتمادى يودُّ الذّهاب إلى أبعد

أضيّع البوصلة عن عمد، أهمِل التدقيق والرّصد

لستُ في مكاني، لا أسمع كلَّ ما يُقال من حولي

وعيني مطموسة في الأفق عبر النافذة

لنصعدَ إلى أعلى قليلاً، القلق يطالبُ بالمزيد

ربّما لم تَعُدِ الأشياء تثير فينا شيئاً".

أو في قولها:

"العُمر

يمرّ تحت الّلحاف

مكمّم الفمّ مثل وردة".

قصائد تتجنّبُ الانفعالَ، كأنّ المشاعرَ مضبوطة

وتتّسع قصيدتُها من جانبٍ آخر لمفردات عصريّة من أسماء آلات وغسّالة صحون وسلّة الغسيل، وهي عناصر رغم تقنيّتها الظاهرة إلّا أنّها تؤثّثُ لحميميَّةٍ طريفةٍ بين شخصَين يتشاركان الحياة في بيت مُشترَك، رغم أنّ السّياق الخاصّ بهذه الأشياء يبدو حديثاً عن إهدارها:

"ملابس مصنّفة كانت ستذهب إلى سلّة الغسيل

وأُخرى إلى جمعيّة خيريّة

جرائد وإعلانات في أكوام

العدل يأخذ مجراه...

المكواة، النقّال، غسّالة الصحون، أسطوانات قديمة

ماكينة حِلاقة مُشترَكة

نقسّمها نصفين

ونقتسم الأمواس

وما حزّ في اللحم

أصوات إلكترونيّة ينحف صفيرها مودّعة

أشياء أخرى كثيرة هنا في البيت

 مثلي ـ

لا تملك القرار

تعلن بهدوء حدادَها".

وتقدّم الشّاعرة توضيحاتٍ أسفلَ الصفحة لتفسير بعض المُفردات، أو شرح عادات ومُمارسات ثقافيّة في الدول الإسكندنافية. وهي إشارات محدودة لا تُعيق القراءة ولا تُثقل على القارئ، بل على العكس تُغني عن القراءة وتساعد على فهم أجواء النصّ، وهو ما قلَّ استخدامه عادةً في المجموعات الشعريّة. لكنّها أيضاً تستلهم ذكريات ووقائع من طفولتها وحياتها في العراق، وأيضاً زيارتها له، وعلاقتها به عن بُعد تَبرز في بعض الإشارات. ونقتبس هنا إحدى قصائدها الجميلة بهذا الخصوص لنختم بها قراءتنا لهذه المجموعة:

"صائغٌ حِرفيّ قديم

دَرَجَ في حياته على الهَمْهَمة

الموتُ أهون...

يتعرّف إلى معدن الناس بيديه

ضريرٌ

يتشمّم مثل أذكى الكلاب البوليسيّة

روائحَ مَن منّا على سفر".

شاعر وناقد فلسطيني مقيم في باريس







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي